2011/08/13

حتى لا يلدغ الشعب التونسي من الجحر مرتين


Lire la suite ...!

صورة الثورة التونسية



الصورة العجيبة
هذه إحدى صور الثورة التي لفتت انتباهي بشكل خاص وأحببتها بشكل كبير ولكن مع التطورات السياسية الأخيرة تغير إدراكي لها فأصبحت أشك وأسائل :
هل هي صورة حقيقية أم بها بعض تلاعب ؟ هل اختطفها مُصور ذكي وفنان حساس بشكل عفوى ام جملها لنا مُتحايل مُحترف ومهف ؟
يبدو من خلال بعض التفاصيل التي لا مجال لذكرها ان الصورة ليست "عفوية" ولكن ما العيب في ذلك ؟ ولماذا أكتشف اليوم ان هذه الصورة "مغشوشة" ؟
واذا كان بها بعض تلاعب فما العيب في ذلك طالما اننا كنا لا نبحث الا عن مثل هذه الصُور ؟ فهل العيب في من اخرج لنا الصورة ام في الغبي الذى قبل الطبخة وروجها وأعجب بها بسذاجة وتحمس لها ركضا وراء سراب الثورة ؟ ان الصورة لا تحمي المُغفلين والساذجين والحالمين مثلي
ولماذا كانت هذه الصورة تعطي انطباعا بالانتصار (وبالضربة القاضية) ؟ لماذا كان وقوع الرمز يُوهم بوقوع المؤسسة التي يرمز اليها ؟ لماذا كنت لا أرى في "الطربوشة" غير رمز سلبي لمؤسسة القمع البوليسي في حين اني اليوم ألمح فيها رمز الجمهورية وقد وقع أرضا ؟ والمح يد خفية دبرت كل شيء بعناية
لماذا لم يعد هذا المشهد السينمائي بامتياز يحمل نفس الدلالات ولا نفس الإيحاءات ولا نفس الجمالية ولا نفس الصدق ولا نفس التفاؤل ؟
يبدو ان الأحداث هي التي تحدد إدراكنا للأشياء والصور والرُموز...او هو تحمسنا للإحداث وتعاملنا الساذج معها
فما هي افضل حماية لعدم الوقوع في فخ "الكاميرا الثورية" ؟
Lire la suite ...!

2011/07/06

انت حار





أصَلي عنيدًا وأصُوم جهرًا
أنام وحيدًا وأمُوت دهرًا
اختنق شريدًا وأتنفسُ قهرًا
انتحر سَعيدًا وأعيش عُهرًا
أتهجدُ شهيدَا وأتلذذ سَهرًا
أشبعُ نبيذا واعبدُ حجرًا

انتحر كل يوم ألف مرة طوعًا وأحيانا على حين غرة
أمُوت في اليوم ألف مرة قهرا وأحيانا بدون علة
ارددُ كل صباح وفي الثانية ألف مرة سأرحل هذه المرة

"SUI.....CIDE"
je prie effronté et je jeune dans la clarté
je dors seul et je meurs une éternité
j'étouffe égaré et je respire opprimé
dans le bonheur je me suicide et je vis une vie immorale avide Requiem de martyre veillée d'épicurien je me rassasie de liqueur et de vin
et je crois en des pierres je me suicide mille fois volontairement chaque jour parfois subitement
je meurs mille fois chaque jours d'oppression et des fois sans raison
je me dis chaque matin, chaque seconde mille fois je partirai cette fois
Lire la suite ...!

2011/04/16

http://www.scribd.com/doc/53154754
حصون السلام وثقافة المستقبل
ام ركاكة الإدارة وثقافة الدولة ؟
سفيان الرقيقي
بتأخير كبير صدر العدد الأول لمجلة الثقافة الرسمية ( الحياة الثقافية).
"عدد خاص" حسب ما كتبَ على الغلاف ولكنه صَدر بدون افتتاحية وبدون روح...
هذه المجلة لا تزال ترفض ان تكون في "هنا والآن " فهي لا تزال مُصِرة على إخراج ضعيف وتعامل بدائي مع الصورة والشكل...وهي مُصرة أيضا على البقاء بدون هيئة تحرير معروفة وهي تتميز ببقاء موقعها على الانترنات وفيا لبن علي اذ لا يزال يعرض في صفحته الأولى صورة بن على وبعضا من خطبه (http://www.vie-culturelle.tn/presentation.php)
المجلة لها عنوان إلكتروني وحيد لرئيس ديوان الوزير... وهي، بخلاف الصحف اليومية، لا تنشر العناوين الالكترونية للكتاب بل لا تشير الى اختصاصاتهم فجميعهم "باحثون" والحال ان بعضهم لا يبدو متمكنا من المنهجية ومن بعض المصطلحات والمفاهيم ..الخ.
"عدد خاص" ولكنه عادي وذو مستوى مُتوسط عُموما وجل المقالات كتبت بآليات الفكر السائد قبل الثورة وبعيوبه مثل الاستعلاء والنظرة الفوقية ورفض التواضع تجاه الثورة ومن صنعوها والعجز عن مُراجعة فرضيات الفكر السياسي السائد ومرجعياته العسكرية (المتمحورة حول مفاهيم مُتجاوزة مثل الزعيم واهمية دور الدولة والنخبة ...) والحديث من فوق الربوة بلغة "كيف نحيط بالشباب ونحصنه"؟ ....
مقالات اغلبها يثرثر، كما الصحف اليومية لترديد كليشيات عن ثورة لم يصنعها المثقفون ولم يفهمُوها ولا يبدو أنهم قادرون على مُواكبتها ...مقالات بلا نقد ذاتي أو مراجعة...وقد كان من الواجب الأخلاقي ان تبحث هذه المجلة في مدى تخلف النخبة (عن ثقافة الفعل الثوري لدى الشباب ) ومدى رجعيتها (مقارنة مع الحدس السياسي للجماهير) ومدى تورطها (صمتا ام مساندة) مع الدكتاتورية ولتبحث عن دورها المستقبلي ...
جل المقالات تعكس ضبابية عنوان العدد" الثورة التونسية وإعادة التأسيس"...فكيف يُمكن الجمع بين مفهوم الثورة و "إعادة التأسيس" ؟ كيف الجمع بين الإعادة والتأسيس؟ وإعادة تأسيس ماذا ؟...
ساذج جدا انا فقد انتظرت عددا استثنائيا يُوزع في كل دول العالم بلغات عديدة وحلمتُ بقرص مضغوط يُوثق لبعض أجمل صُور الثورة وأغانيها ولحظاتها...
للتذكير فقد أصدرت عدة مجلات فرنسية أعدادا خاصة بثورة تونس وخصصت كبريات الصحف في العالم ملفات خاصة عنها وقد أصدرت الصحف المصرية والمنابر الثقافية المُختصة أعدادا خاصة وهامة عن ثورتها وكنت انتظر عددا أهديه لأصدقاء في الشرق مُتعطشين للقراءة عن هذا الشعب وعن ثورته وعن شبابه..الخ.
بحثت عن مقال استثنائي ..عن قراءة جدية أو جديدة...عن مقال نقدي يصل الثورة بأصولها التاريخية..يحلل قيمها الجديدة ورموزها ويتوقف عند استثنائيتها ويُوضح ما اذا كانت هذه الثورة ستشكل قطيعة فكرية وكيف ؟ ..
حتى المقال الجيد عن الشارع (فن الشارع وثقافة الجدار ) فقد اعتبر ما حصل في تونس امتدادا لما يعرفه الفن التشكيلي عالميا ...
تذكرت مقالات تاريخية كتبت بعيد انقلاب 1987 ضد التيار مثل (" نشاز" ام زياد و"حرية شعب" الطاهر الهمامي ونقطة ظل لهشام جعيط )...اذ نحن بحاجة في هذه المرحلة الى بعض حذر ونقد وتعقل يقطعُ مع موجة من يُطبلون للثورة وللأحداث بعد وقوعها ...ونحن بحاجة الى من يرفضون التفاؤل الساذج ...ويقدمون قراءات مقارنة ورؤية مُستقبلية...
الا تستحق هذه الثورة العظيمة وهذا العدد الخاص ان تطلب الإدارة من عمالقة الصحافة والفكر والفن والأدب في تونس وفي العالم أن يخصوا المجلة بشهادات او نصوص أو أعمال يُمكن ان تشكل حدثا ثقافيا ؟...
ثم اليس اضعف الإيمان الوصف والتوثيق الجيد والجميل، اذا كانت المجلة عاجزة على ان تقدم قراءات وتحاليل جدية للثورة ؟
بعد اقل من شهر يبدأ مهرجان كان السينمائي وسيُهرول الآلاف من السينمائيين والصحفيين الى "مائدة الثورة التونسية" لاكتشاف ثقافة وصورة ما بعد الدكتاتورية فهل سنهديهم مثل هذه الانجازات العظيمة ؟
من العار على الثورة ان تبقى الثقافة بيد وزارة
ومن العار على تونس ألا تكون لها اي مجلة ثقافية غير هذه المجلة ...ومن الإجرام ان يجبر شباب الثورة للعودة الى مقاطعة الثقافة وكل ما يذكره بالدولة وبثقافتها التعيسة والكئيبة والراكدة ....
اليوم تغيرت الظروف واذا لم يُبادر أي احد او جهة الى توفير منبر ثقافي جديد وجاد ومنفتح على الجمال والشباب والمستقبل والعالم ، فان إطرافا سياسية قد تستغل هذا الفراغ لا لتبني حصون السلام بل لتدق طبول الحروب (حسب ديباجة اليونسكو : لما كانت الحروب تتولد في عقول البشر، ففي عقولهم يجب أن تبنى حصون السلام") .
Lire la suite ...!

2011/03/26

دكتاتورية الأغنية وأغنية الدكتاتورية تونس نموذجا


الأغنية وأغنية الدكتاتورية :

تونس نموذجا

احد المقالات الذي نشرتها سنة 2001 في تونسنيوز باسم مستعار

قد يستغرب البعض اختيارنا نشر المساهمة التالية في مثل هذه الاوضاع الخطيرة والمأساوية التي يمر بها العالم ومنطقتنا. لكننا آثرنا الإقدام على نشر المقال الطويل الذي وافانا به مشكورا أحد قرائنا الأكارم لأنه يكشف عن جدية وعمق في معالجة ظاهرة من أخطر الظواهر الثقافية القائمة في تونس وفي كل البلدان العربية تقريبا ولأنه يكشف المدى الذي وصلت اليه سياسة التصحير والتنميط الثقافي في بلادنا وهو مدى ينذر بعواقب غير محمودة للأجيال ‌الحاضرة والمقبلة على حد السواء. لأن الارهاب الثقافي والحضاري أبشع أنواع الإرهاب ومقدمة لجميع الكوارث والبلايا



تونس في29 سبتمبر 2001

تحية احترام وتقدير،

لقد ترددت كثيرا قبل أن أرسل إليكم هذه القراءة النقدية للسياسة الغنائية التونسية والتي تتعرض في المدة الأخيرة إلى كثير من النقد عكست الصحف التونسية بعض جوانبه. ويعود سبب ترددي الى فرادة الموضوع وجرأة التحليل وانه لشرف لي أن تقبلوا نشر هذه المحاولة التى أرجو ان تنال استحسانكم مع التأكيد على ان المقال يتعلق بالسياسة الغنائية وليس بالأغنية.
واسمحوا لي أن أشير إلى إنني أكره نظرية التآمر وامقت النقد الموجه غير متعدد الأبعاد واحتقر بعض الصحفيين العرب الذين يجتهدون في تحميل الأنظمة العربية مسؤولية كل شيء...، غير أنى أصبحت أميل أكثر فأكثر إلي التراجع
عن هذه الثوابت ( فلست في معزل عن موجة التراجع عن الثوابت ) كلما فكرت في سياسة الأغنية فى تونس خاصة وان عديد المستجدات التكنولوجية والسياسية تؤكد الحاجة الُملحة لإعادة النظر جذريا لا فقط في سياسة الأغنية (وهو ما عكسته بشكل او بآخر عديد المقالات الصحفية وخاصة منها المتعلقة بالمهرجانات الصيفية لسنة 2001 ولعل أبرزها الحديث الجريء الذي أدلي به الموسيقار محمد القرفي إلى مجلة حقائق عدد 814-815 تحت عنوان: لمصلحة من الإقصاء الثقافي؟) وانما أيضا بالسياسة الثقافية عموما ( وقد نشرت جريدة الصباح عدة مقالات فى هذا الاتجاه كما غطت تفاصيل "الإشكال " الذي قام بين المسرحي توفيق الجبالي ووزارة الثقافة وانفردت بنقل النقاش الذي عرفه البرلمان أخيرا حول الرقابة عن الأغاني وما أشيع عن منع الحكومة لاغاني تونسية تتعلق بالقضية الفلسطينية ).



مع الشكر سلفا
وتقبلوا فائق احتراماتي
فارس علي

--------------------------------------------------------------------------------



دكتاتورية الأغنية وأغنية الدكتاتورية :
تونس نموذجا

على فارس *







مقدمة

منذ صيحة الوليد الأولي وترنيمة الأم تُداعب الرضيع إلى نواح الدفن وأنغامه الحزينة مرورا بإيقاع المطر ومختلف أصوات الطبيعة والكائنات الحيّـة و"أغاني" الأفراح والعبادات والأحلام و"أنين" العمل وأناشيد الحروب وآهات الانتشاء وتأوهات الألم...الخ، فان حياة الإنسان شريط غنائي طويل لا يتوقف إلا حين يتوقف ضابط الإيقاع : القلب.

ولكن ماذا يحدث لو تدخلت السياسة ( الغنائية ) في هذا المجال " الشخصي" لمحاولة فرض "أغانيها" ؟



1. أهمية الأغنية



الجميع يقر بالأهمية الاستثنائية للأغنية سواء كسياسة عمومية او كظاهرة اجتماعية وسياسية.



أ °) أهميتها كسياسة عمومية



تقوم السياسة الثقافية في تونس على التنشيط الثقافي أساسا ويكاد هذا الأخير يُختَزل في التنشيط الغنائي، فوزارة الثقافة تُولي الأغنية عناية فائقة وتدعمها بأشكال متعددة وهامة وتُركز عليها بشكل كبير إنتاجا وتكوينا وترويجا واستهلاكا ...الخ ( 1 )، وبالنظر إلى أهمية هذا الدعم وتعدَد ومُستوياته يُمكن طرح السؤال التالي: هل هنالك إرادة سياسة لتضخيم الأغنية ؟ ومهما تكن الإجابة، فان الأمر الثابت أن الأغنية في تونس وخاصة في السنوات الأخيرة،أصبحت تتمتع بدعم رسمي هام يبرز أساسا من خلال أهمية الدعم المالي ومتابعة كبار المسؤولين السياسيين لبعض الحفلات الغنائية العمومية ومن خلال هيمنة الأغنية على الإعلام الرسمي ( فساعات البث الإذاعي والتلفزي المخصصة للأغنية تفوق ما هو مخصص لمختلف الأشكال الفنية الأخرى ولمختلف الرياضات مُجتمعة إلى درجة أن الإذاعات والتلفزات الرسمية، وهي قنوات عامة ! ، انتهت شأنها شأن الحملات الانتخابية والأعياد الوطنية، سلسلة لا متناهية من الأغاني ) .



ب °) أهميتها كظاهرة اجتماعية



تُمارس الأغنية تأثيرا هاما ومتزايدا علي الجماهير وخاصة الشباب وتحتل مكانة " شعبية " هامة سواء :

· في بعدها اليومي : إذ أنها تحتل مختلف الفضاءات (الشوارع والمقاهي والمنازل والمصانع والسيارات...) وتغزو كل الجهات وتؤثث جل المناسبات ( الأفراح الخاصة والمناسبات العامة ) وتستبد بمختلف الشرائح الاجتماعية ( الشيوخ والأطفال والشباب والنساء والرجال ... والأغنياء والفقراء...الخ )...

· أو في مستوي اللاوعي الجماعي : إذ يختزل التونسي مُتَعَ الدنيا في ثلاثة عناصر: " الشراب والقحاب وعبد الوهاب" ( 2 ).



ج °) أهميتها كظاهرة سياسية



لقد لعبت الأغنية، عبر مختلف العصور، أدوارا سياسية هامة ليس فقط من خلال مضمونها المباشر وإنما أيضا عن طريق الدور الموكول إليها في صرف الجماهير عن بؤس الواقع وفي "لاتسيسها" (dépolitisation ) ( 3 )، غير أن ذلك لم يمنع رواج أغاني " مُشاكسة" احتفظت كتب التاريخ والذاكرة الشعبية بنماذج منها تنتقد أو ترفض الواقع السياسي والاجتماعي ومؤسساته وقيمه وتشهد على وجود هامش من الحرية. ويبدو أن هذا الهامش بدأ، اليوم، يتقلص بسبب هيمنة الدولة ومؤسساتها على جل فضاءات وأدوات الاتصال حتى أضحت الحفلات الخاصة، سواء في المدن أو حتى في الأرياف، نمطية تكاد تكون مجرد ترديد للأغاني "الرسمية" ( 4 ). فهل ان الأغنية تتجه إلى "الرسمنة" وإلغاء هامش "الحرية" الذي يفصلها ( والثقافة عموما) عن السلطة السياسية؟( 5 ).

لقد عرفت تونس مع بورقيبة، نماذج لأغاني سياسية مباشرة وبدائية وفجة (لم تكن تختلف كثيرا عن الأغاني النازية وأغاني العمل الجماعي في الحقول السوفياتية..) وكان بعضها يتناول بعض المحاور الاقتصادية والسياسة الرسمية ! ويبث يوميا في التلفزة والاذاعة (خاصة في بعض المناسبات مثل أعياد ميلاد الرئيس)، غير أن هذا الشكل من الأغنية الرسمية أصبح اليوم، ، في تراجع بل انه اندثر من جل دول العالم ( باستثناء ليبيا وسوريا والعراق وبعض الدول "المؤدلجة" ) ولكن هذا التراجع الهام لا يعود الى تحرر الأغنية من قبضة السياسة بل ان التطور الاجتماعي والملاحظة الميدانية أكدتا عدم جدوي هذا الأسلوب وبل وتناقضه مع التوجه العام للسياسة الحكومية اذ لا يمكن العمل فى نفس الوقت على " لاتسييس" الشعب من جهة وعلى توجيهه عن طريق الاغاني المُسييسة من جهة اخري، فالتغير الذى حصل لم ينبع من تغيير في تصور الدولة للأغنية (وللثقافة عموما ) وانما من حرصها علي اعتماد أساليب هيمنة أكثر نجاعة وتسترا، ففي حين تراجعت الأغنية المباشرة، امتدت هيمنة السلطة السياسية إلي "الأغنية العادية" وقد كشفت الحملات الانتخابية الأخيرة من خلال اعتمادها الكبير علي الأغنية ( 6 ) عن مفارقة جديدة إذ بقدر حرص "السلطة" علي ألا يكون لها مُغنوها الرسميون بقدر حرصها على "الاستفادة" السياسية من كل المغنيين وخاصة النجوم وتحويلهم جميعا إلى مغنيين " شبه" رسميين كلما دعت الحاجة إلى ذلك ! وبالمقابل فهي تغدق عليهم وبسخاء من المال العمومي والنعوت الفنية ما يليق بجليل الخدمات "السياسية" التي يقومون بها عن وعي فى بعض الأحيان وعن غير وعي في أغلب الاحيان.



2. تشيئة الأغنية وترويض الجمهور

من المفروض أن يُحيل أي حديث عن تشيئة الإغنية وتحويلها الي مجرد بضاعة الي الحديث عن السوق وقوانينها وعن العرض وتنوعه والطلب وأهميته والمستهلك و"سلطته" ...الخ، غير ان أي حديث عن سوق الأغنية في تونس هو مجرد إفتراض نظري، فالمستهلك مُهمّش كفاعل والإستهلاك مُضخم والشفافية مفقودة والدراسات نادرة والنقد المختص ضعيف والإحصائات شبه غائبة.....وفي كلمة واحدة فالسوق تحت " تصرف" الإدارة .

ثم ان الأغنية فى في تونس، إضافة الي ما تعاني منه من كثرة الممنوعات المتعلقة بالمضمون، مراقبة إداريا أيضا حسب السلوك "السياسي" للمغني اذ يمكن ان يُعاقب أو يُجازي أي مُغني بناء علي اعتبارات" سياسوية " تتعلق بتصريحات صحفية " غير لائقة" أو ببعض أفكار " غير وطنية". وطبيعي في مثل هذا المناخ أن ينسحب طوعا أو كرها أي صوت مشاكس... وطبيعي ايضا ألا يبقي في الساحة الغنائية الا المغني الذي يبدأ أحاديثه بشكر التلفزة ومنشطيها ومسؤوليها...ويختمها بمدح وزارة الثقافة وحراسها...ويغني مجانا او باسعار رمزية في حفلات الحزب الحاكم والشرطة والحرس...وصناديق جمع الاموال ( 26-26 و21-21 ).

فالأغنية تحت وصاية الإدارة بحيث يصعب اليوم رواج أي أغنية أو نجاح أي مغني مهما كانت قيمته (ها) دون "الاستعانة" ببعض المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية (وخاصة منها الإذاعة والتلفزة) ودون قبول "قوانين اللعبة" ( يمكن مراجعة الحوار الجريئ للموسيقار محمد القرفي تحت عنوان "لمصلحة من الاقصاء الثقافي" ،حقائق عدد 814-815 اوت 2001).

فالاستهلاك الغنائي في تونس، في أغلبه، استهلاك سلبي ( passive ) في سوق تحكمها إلى حد بعيد، السلطات العمومية من خلال توجيه " العرض الغنائي" نوعيا وتضخيمه كميا.

ولعل ما تقدم بيانه يمكن أن يُفسّر إصرار السلطات العمومية علي رفض الترخيص في إحداث إذاعات خاصة لان ذلك من شأنه أن يؤثر علي نوعية الطلب (الغنائي) وُينوع العرض والجمهور ويخلق مسالك توزيع جديدة وربما يخلق نجوما غنائية جديدة لا " ديون" لها تجاه السلطة.

وعليه، فان تحويل الأغنية إلى بضاعة دون أن تكون لها سوق فعلية وتنافسية، أمر لا يخدم في نهاية التحليل إلا السلطة السياسية المتحكمة في هذه السوق والتي تسعي الى توجيه الاستهلاك الغنائي قصد تحويله الي استهلاك " سندويتشي" عابر يقترب من الموضة.



وتتحكم السلطات السياسية في سوق الأغنية أساسا من خلال :

· احتكار ملكية الإذاعات والتلفزات ( باستثناء وحيد يهم قناة افق والتى ستنسحب مع نهاية سنة 2001 دون ان تترك أثرا يذكر في المشهد الغنائي )،

· توجيه الإذاعات والتلفزات بحيث تركز علي الأغنية، فالبرامج والمنوّعات ومختلف الحصص التنشيطية في الإذاعة والتلفزة، تكاد تختص جميعها في عرض الأغاني والإشادة بها مع تهميش للثقافة الموسيقية والغنائية ( اذ تغيب فى التلفزة البرامج الغنائية المختصة! )،

· حماية الأغنية التونسية من أي منافسة جدية ( 7 )،

· التحكم في "المهرجانات الثقافية " وخاصة منها الصيفية والتي تتجه منذ سنوات إلى التركيز علي الغناء ( وعلى بعض النجوم ) ويتم هذا التحول التدريجي في مضمون ووظائف المهرجانات باسم المردودية والشبابية ومسايرة الجمهور... والحال أن هذه المهرجات لا تزال عمومية ومدعومة بما قيمته ثلث ميزانية وزارة الثقافة ( 8 ).

· توجيه لا فقط مضمون الأغنية وانما أيضا عملية الإنتاج الغنائي ككل بشكل يُهمش الجمهور ويٌحوله إلى مستمع سلبي ( 9 ).



تبدو، إذن الأغنية، كأداة سياسية ( وليس كتعبير فني )، مجال بحث بكر وحقلا سياسيا خصبا يستغله السياسيون بشكل مكثف وناجع دون أدني محاسبة أو نقد.



3. الأغنية كأداة سياسية ...!



أ ) لماذا الاغنية ؟

ان الانطباع السائد في الأوساط العلمية والشعبية هو أن الأغنية لا علاقة لها بالسياسة، ولعل هذا الانطباع هو أحد الأسباب التي جعلت بعض الأنظمة تتخلي عن تسييس الأغنية ( كمضمون ) وتُركّز على تسييس السياسة الغنائية.

فالأغنية تحتل، اليوم، مكانة سياسية هامة لا فقط بالنظر الي جماهيَريتها المتأكدة والمتزايدة ولتأثيرها الهام وإنما باعتبار نجاعتها من جهة وتسترها بشعارات وأهداف نبيلة من جهة أخري، وهو ما يسهل توظيفها سياسيا من قبل الأنظمة التي أثمرت سنوات القمع فيها صحراء قاحلة في المجالين السياسي والثقافي.

ففي تونس لا تزال جل وسائل الاتصال الجماهيري عمومية و"جلها" مُسخّر لخدمة النظام السياسيّ القائم ورُموزه ولا يزال كل ما تبثّه هذه " الأبواق " وما لا تبثُه يندرج ضمن " تسويق سياسي" مُعيّن يُحاول قدر الإمكان ضرب عصفورين بحجر واحد: تكثيف الدعاية السياسيّة وملئ الفراغ الثقافي.

ويمكن بسهولة الوقوف علي مظاهر الدعاية السياسية أما "سياسة ملئ الفراغ" فتكفى متابعة البرامج الإذاعية والتلفزية الرسمية لاكتشاف أن أغلبها " يتميز" بالسطحية والارتجالية ...وخاصة بالتمطيط والإطالة والتكرار...الخ ( 10 ).

وبقدر ما أظهرت السلطة عجزا عن خلق أنماط مُبتكرة من التسويق السياسي بقدر ما أثبتت قدرات عالية في تسييس وتوظيف بعض الأدوات غير السياسية وخاصة الغناء وكرة القدم ( 11 ) لخدمة سياستي الدعاية وملئ الفراغ إلى درجة أصبحت معها الأغنية تُمثل رهانا سياسيا بالغ الأهمية بحيث يبدو أن التونسيين لا يعيشون لا عصر الصورة ولا عصر الإنترنات بل عصر الأغنية. ولكن لماذا الأغنية دون سواها ؟ يبدو ان الأغنية، بخلاف مختلف الأدوات المُمكن استعمالها للتسويق السياسي تتميّز بجملة من الخصائص "الطبيعية " التي تجعلها أداة سياسية متميزة وناجعة فهي :

· أولا : أداة محايدة سياسيا : تبدو الأغنية بعيدة عضويا ووظائفيا عن السلطات السياسية اذ لا يكاد يُدرك الجمهور ما وراء ستار الأغنية من رهانات سياسية ومتدخلين ( إدارات، هيئات...) خاضعة كليا أو جزئيا وفى كل مراحل الإنتاج والترويج إلى "البيروقراطية الثقافية" (حسب تعبير الشاعر الصغير أولاد أحمد ) .

· ثانيا : إبداع "فردي" ان إدراك الجمهور لكل من النجاح والفشل فى مجال الأغنية يُحيل الى مفاهيم بعيدة عن السياسة تنتسب إلى عالم الفرد ( فالمطرب الناجح هو عبقري أوساحر أو هبة من الله..) وذلك بخلاف إدراك الجمهور للنجاح والفشل فى مجالات أخرى ككرة القدم مثلا التي يتجه إدراكها إلى مفاهيم جماعية ( سياسية ) تتعلق بمحاور لسياسات معينة ( البنية التحتية والاستعداد والتكوين والاختيارات والإستراتيجية والتكتيك والقيادة والشرعية والعلاقة بالجمهور والتمويل....الخ ) ( 12 )،

· ثالثا : ذات وظائف تجانسية وايجابية، فالأغنية تُوحّد ولا تُفرَق، تُجمٍع ولا تُقسِم وهي لا تغذي عصبيات خطرة ولا تؤدي إلى تحركات عنيفة كما لا يمكن لها توتير المناخ العام أو نشر شعور عام وحاد ومفاجئ بالإحباط وهو ما يمكن أن يحدث عند نهاية بعض المباريات الرياضية الهامة ( 13 ). فالأغنية أداة ايجابية ولكل الأذواق والأعمار والمناسبات واستهلاكها مجرد ترفيه بريئ ( يكاد ينفصل عن المنتوج ليرتبط بصورته التسويقية) يقترن، أكاد أقول وجوبا، بالفرح والسعادة...

· رابعا : تصنع رموزا هشّـة: تكاد تكون الأغنية الوسيلة الوحيدة لصنع نجوم ورموز تصبح بسرعة تُقدّسُ و"تُلهب الجماهير" دون أن تتحول إلى سلطة قائمة الذات بل تظل في أغلب الأحيان " هشّـة " يُمكن تحطيمها نهائيا وفي أي وقت بمجرد قرار إداري ( باستثناء بعض مغني الفن الشعبي ).

إن عدم وجود ضوابط في الميدان الغنائي وغياب حواجز عند دخوله وافتقاد أي مصداقية لمختلف عمليات "الانتقاء" والتتويج يجعل الباب مفتوحا أمام جميع المغامرين والانتهازيين وهو ما يمكن أن يجعل المغني نموذجا لنجاح مغشوش لا بطولة فيه. فالميدان الغنائي صحراء ليس فيها لا معايير ولا ضوابط ولا مصداقية ولا أخلاقيات مهنية ولا نقابات ولا أجهزة متابعة ورقابة ( وطنية أو دولية ) وحتى الصحافة المختصة شبه غائبة...الخ. فهو ميدان يجمع مُجرد أفراد متناقضي المصالح يسهل توجيههم ويصعب التقائهم خاصة وانهم بين سندان " الجمهور" ومطرقة السلطة ثم أن "الحكم" الوحيد في الميدان الغنائي هو "الخصم والحكم"( السلطة السياسية ) بحيث أن قواعد اللعبة في هذا المجال غير مُتفق عليها بل غير معروفة، فجل خيوط "اللعبة" بيد السلطة تخفيها وتغيرها كما تشاء لكي" تصنع" النجوم وتروجها ( خاصة من خلال المهرجانات ودور الثقافة والإذاعة والتلفزة.. ) وتروج من خلالها حلم النجاح المادي السريع والصعود الاجتماعي السهل ( إضافة إلى حلم الشهرة ووهم الخلود ). وما يُميّز الأغنية في عصر الصوت الرقمي و"القيافة الصوتية"...الخ، هو أنها تجعل حلم النجاح السريع والسهل في متناول ليس فقط ذوي الأصول الاجتماعية المتواضعة وإنما أيضا في متناول ذوي المواهب المحدودة ( بخلاف النجاح في مجال كرة القدم مثلا حيث يبدو ان هنالك حدا أدنى من المؤهلات الفردية الضرورية وتبدو قواعد اللعبة، واضحة ومحترمة )، فالاغنية إذن، تقدم، أحيانا، نماذج لنجاحات تفتقد الى الحد الأدنى من المبررات الموضوعية والفنية للنجاح ممّا يُمكن أن يُشجّع ( ضمنيا ) قيم لا علاقة لها بالعمل والإبداع والمصداقية...الخ



إن كل ما سبق يزيد في هشاشة وضع المغني ويجعله أكثر تهديدا وتبعية وينتهي به وبالأغنية فريسة سهلة لمختلف أشكال الاحتواء الرسمي والتوظيف السياسي خاصة فى إطار سياسة واضحة لتضخيم أهمية الأغنية وهي التي تتمتع أصلا، بخصائص معروفة تجعلها احدى اكثر المنتوجات الثقافية استهلاكا و"اشتهاء " ولعل ابرز هذه الخصائص :

1- سهولة تقبل الأغنية: فاستهلاكها لا يكاد يتطلب أي مجهود أو تجهيزات أو تعلم أو تعوَد إذ انه لا يستوجب غير أذن قادرة على السماع ( بقطع النظر عن نوعيته)، فاستهلاك الأغنية بنهم ومتعة ( والموسيقى عموما ) نزوع إنساني غريزي بل إن استبطان الأغنية وتلذذها أمر سهل وهو مُرتبط إلى حد بعيد بكميّة الاستهلاك ( وليس فقط بنوعيته ) : فالمرء يكاد يكون مدفوعا إلى ترديد أي مقطع غنائي يسمعه بكثافة.

2 - "إجبارية " الاستهلاك : بخلاف الكتاب والسينما وحتى كرة القدم، فان الأغنية تفرض نفسها على الجميع وبإلحاح وكثافة وبصفة "مجانية" وعرضية ( في الشارع والمقهى...) وطبيعي أن تمرير الأغنية ( فضلا عن تمرير نفس الأغنية ) بشكل مُكثّـف يخلق ويُضاعف جمهورها ويشجع على الإدمان عليها خاصة إذا كان هذا الجمهور مُجبرا على الاختيار بين "أغنيتين" : الأغنية الرسمية السائدة أو الخطاب السياسي الرسمي.

3 – تأثيرها الكبير على الفرد والمجموعة : للأغنية تأثير كبير علي الإنسان، فهذا الأخير مدفوع بالفطرة ليس فقط إلى الاستماع بل إلى الاستمتاع المُفرط والمُتكرِر بالأغنية وبنفس الأغنية أحيانا ( لا أحد يقرأ نفس الكتاب وبنفس المتعة آلاف المرات ولا أحد يستهلك نفس "البضاعة" عدة مرات فى اليوم وبنفس النهم إلا حين يتعلق الأمر بالأغنية وبالموسيقي عموما ) ويتضاعف التأثير الخاص للأغنية وتتضاعف الحاجة إليها عند المناسبات الخاصة ( موت، زواج..) والانفعالات الكبيرة ( فرح، حزن، قلق ..الخ) والحالات الاستثنائية ( عشق، عبادة، أزمة...الخ).

وقد تفطنت الحضارات المختلفة لا فقط إلى الـتأثير الهام والسريع للأغنية على الإنسان كفرد بل والى كون تأثيرها على المجموعات أهم بكثير من تأثيرها على الأفراد لذلك لعبت الأغنية، ومنذ القدم، أدوارا هامة في جل المناسبات الجماعية سواء منها العامة ( حروب وعبادات وعمل في الحقول ومراسم سياسية...) أوالخاصة ( زواج ودفن ...).

- 4 – تأثيرها " السحري " : يمكن إعتبار الأغنية احدى أكثر الأشكال الفنية الجماهيرية قدرة على مداعبة العواطف واستثارة الأحاسيس وتحقيق المتعة و"إغتصاب" النشوة ومراودة الأحلام وتحريك المكبوت واستنطاق المخيال وانتاج "الأوهام".. وهي الشكل الفني الوحيد، تقريبا، القادر على "التنويم" وتعطيل الحواس والخروج بالإنسان عن دائرتي المنطق والمعقول ( يمكن الإشارة في هذا المجال إلى ما يثيره الغناء الصوفي من "ذوبان في الذات الإلاهية" والى "التخميرة" التي تنتاب البعض في زوايا الأولياء اوعند احتفالات كربلاء... ). فالأغنية هي إحدى أكثر الأشكال الفنية سحرا للبشر وهو ما يمكن أن يفسر أنها كانت ولا تزال معشوقة بجنون من كل الناس مهما اختلفت أعمارهم ومستوياتهم وأذواقهم ودياناتهم وان بعض الحفلات الغنائية " تتحول الى شبه طقوس دينية تحضر فيها جل مظاهر "الحلول الصوفي "( صياح وآهات جماعية وحالة قصوى من الهيجان والانتشاء ) فيتحول النجمُ شيخَ طريقة يُردّد مُريدوه كلماته وحركاته.. أو"آلهة" يُقدم بعض العُشاق لها القرابين ( الملابس الداخلية... ) أو "ولي" يتبرّك بعض المُتّيمين بلمسِه أو ساحر يسعي بعض "المجانين" إلي الحصول على "حرز" من عنده ( إمضاء أو صورة..) وجميعها مظاهر لسلوك يُحيل إلى مجال اللامعقول.

5- سهولة التلاعب بها ( manipulation ) إن قدرة الأغنية على الانتشار والتأثير تجعلها تخلق أبطالا "أسطوريين" ونماذج يُحاول )آلاف وملايين( المعجبين تقليدهم فى كل كبيرة وصغيرة وينتشون عند سماعهم ويتخمرون عند رؤيتهم...وهو ما يجعل من اليسير توجيه هؤلاء المعجبين من خلال توجيه واحتواء " النجوم " سواء لأغراض تجارية أو سياسية.

ثم ان إمكانية التلاعب بالأغنية سهل لان "صناعتها" لا يستوجب تمويلات ضخمة أو بنية أساسية هامة خاصة وانه يُمكن إعادة ترويجها إلى ما لا نهاية وإن السوق غير مُنظمة بحيث يمكن لأي شخص تقريبا أن يصبح " نجما". فالنجاح الغنائي أمر يُمكن للسلطات تضخيمه بسهولة بخلاف أي نجاح آخر ( رياضي أو فني ) وهو يتأثر بشكل مباشر وكبير بالاعلام وخاصة بالتلفزة مع العلم أن أي نجاح غنائي ( ولو كان مغشوشا أو مبالغا فيه ) يُصبح إنجازا وطنيا هاما تحاول الأجهزة الرسمية استغلاله لتحقيق عدة أهداف سياسية ( وخاصة دعم النخوة الوطنية ...).



ب ° ) الأغنية أداة " الإتصال المباشر "


لا توجد اي علاقة موضوعية بين المفهوم السياسي للإتصال المباشر ( كما حدّده بورقيبة منذ الثلاثينات ) وبين تقنية البث المباشر، غير ان ما تحضى به الاغنية من أولوية مطلقة في جل البرامج المباشرة يلفت الانتباه ويفرض طرح السؤال المشاكس التالي : هل عوّضت الأغنية الرسمية وظيفيا الاتصال السياسي المباشر؟ يصعب الخوض في هذا الإفتراض غير أن الثابث أن جمهور كل من الأغنية والاتصال المباشر، سلبي يتقبّل الموضوع ( خطاب أو أغنية ) في شبه "تخميرة" وهو مُستعد سلفا للاستماع، دون ملل، إلى "أغنية" يعرفها جيّدا وللتمتَع بلحن تعوّد أن يُداعب عواطفه وللانبهار بقدرات صوتية إستثنائية لنجم يعشقه ولمشاركة المجموعة " المفعول بها" بعض الأحلام والسلوكيات وخاصة بعض ردود الافعال التى تكتسب لذة خاصة عند ممارستها مباشرة وفي شكل جماعي...مثل التصفيق والرقص ( وقد كانا وراء بعض المناوشات بين جمهور قرطاج وصنف من المغنيين مثل مارسال خليفة ).

فهل يمكن اعتبار مبالغة جمهور الأغنية فى التصفيق امتداد لثقافة سياسية سائدة تقوم أساسا على هذا النوع من "المشاركة" ؟ وهل يمكن اعتبار الاغنية اليوم، كمثل الخطاب السياسي المباشر لدى جيل الحركة الوطنية: شحنة مُـنشّطة يُدمن الجمهور علي استهلاكها بحماس وكثافة رفضا ( أوهروبا) من واقع ليس فيه كثير من الاختيارات ؟.

ففي زمن غاب فيه الزعماء " الكاريزماتيون " وانحدرت فيه مصداقية السياسيين الي ما دون الحضيض وقلت فيه القضايا العامة المُمكن طرحها للنقاش...الخ، لم يعد مُمكنا للخطاب السياسي الرسمي عزف" ألحان" يطرب لها الجمهور وينشَدُّ إليها بحماس ..ويبدو أنه لم يبق للسلطة أفضل من الأغنية غاية ووسيلة سواء لتـأكيد الوحدة الوطنية أولتعزيز الإنتماء للوطن أولدعم الولاء للزعيم أو لملئ الفراغ ( وخاصة أيام الأعياد الوطنية والمناسبات السياسية) أوللإيهام بوجود " ابداع ثقافي"...الخ ( فالإعلام الرسمي يستعمل في أغلب الأحيان مصطلحات توحي او تجزم بأن المغني مبدع وفنان ومثقف !!! وان كل اغنية جديدة هي اضافة ابداعية خالدة !) .

فالأغنية، أصبحت بسبب استعمالها المُكثف والمٌسيس، تخلق الرموز وتصنع الموضة وتحدد معني وأشكال الجمال والسعادة والوطنية....وتحدد نوعية المواضيع المسموح بها...وتصنع واقعا بديلا عما يتخبّط فيه الشباب من مشاكل... ومقابل هذه الخدمات الجليلة، تتمتع الأغنية بنوع من "الحرية" اذ مسموح فى عالمها بعض ما هو مُستهجن إجتماعيا أو ممنوعا قانونيا ( سواء في عالمها الخيالي الذي يُغنّي أو خاصة فيما يتعلق بالحياة الخاصة للنجوم ) غير ان هذه الحرية الإستثنائية لا تشمل أيا من الممنوعات السياسية! فقد تتسامح السلطات الإدارية والأمنية مع ما قد يُصاحب الحفلات الغنائية من سلوكيات مُستهجنة ( سواء فوق الركح أو علي المدارج ) ولكنها لا تتسامح مع التجاوزات السياسية، أما غير ذلك من التجاوزات فهي،ان حصلت، تُشكل إضافة الي ملابس المغنيين وتفاصيل حياتهم الخاصة... أبرز محاور اهتمام الصحافة التي لا تتعرض الى البعد السياسي لمثل هذه التجمعات الجماهيرية التى تُنَصِِب النجم الغنائي فى مكانة رمزية رفيعة جدا تفرض طرح السؤال التالي : كيف يقبل الرئيس ( الذي لا يزال يرفض أي مشاركة له في سلطته سواء الفعلية او الرمزية ) مثل هذه المنافسة ؟ بل كيف يقبل الرئيس،أي رئيس عربي، أن يظهر في التلفزة وهو جالس مُستمعا بصفة سلبية ( شأنه شأن أي متفرج عادي ) إلى نجم غيره وهو الذي دأب منذ سنوات على ألا يظهر إلا كبطل يأمر وينهي و يملأ " الصورة" بمفرده ؟.



4. الثقافة الضمنية لدكتاتورية الاغنية


بعد "انتهاء" عهد السحرة ورجال الدين و"الأولياء" وتراجع أهمية الشعراء وموت الايديولوجيات وانتهاء الخطابة السياسة..يبدو ان السلطة لم تجد أفضل من "الأغنية" أداة لملئ الفراغ الذي يسود الساحتين الثقافية والسياسية ولممارسة ضربا من ضروب السحر و"الاستبداد" بالجماهير ولتكوين نماذج يقتدى بها, وتُبرر السلطات العمومية سياستها لفرض "دكتاتورية" الاغنية بجملة من الأعذار أهمها ثلاثة:

- أولا: أن الأغنية تستحق عن جدارة تلك المكانة المتميزة باعتبار انها احدى أهم الوسائل التى تمكن الجمهور من تهذيب ذوقه (الموسيقي) ومن تحقيق ذاته والتعبير عن نفسه ومواكبة العصر. ..الخ.

- ثانيا : إن تشيئة الأغنية وتحويلها إلى بضاعة وتزايد الاهتمام بها كل ذلك من مظاهر العصر ومن نتائج العولمة وهو خارج عن إرادة الدول ،

- ثالثا : إنها مُجرد تلبية لرغبات الجمهور.

بخلاف العذرين الأول والثاني الذين يُمكن إعتبارهما "كلمتا حق أريد بهما باطل"( خاصة وان فيهما خلط واضح بين الاغنية والموسيقي ونفي ضمني لتحكم الدولة في هذا المجال وتجاهل لقضية تنميط الاغنية )، فأن العذر الثالث مُهمّ من حيث قيمته السياسية اذ أنه يوحي أن لرأي الجمهور ( الغنائي ) قيمة عظمى شبه مُلزمة للمسؤول الثقافي الذي لا يسعى إلا لتلبية هذه الرغبات كمّا وكيفا!.. فإذا كان الأمر كذلك لماذا لا يسمح للخواص بإنشاء إذاعات موسيقية ؟ بل لماذا لم تفكر كتابة الدولة للإعلام ووزارة الثقافة في إحداث إذاعة غنائية مختصة بدل إحداث اذاعات جهوية عامة ومستنسخة؟

ان تحويل الاغنية الى مجرد بضاعة خاضعة لقوانين الموضة التى تفرض تغييرها بسرعة وبدون مبرر، يُؤسّس في الدول غير الديمقراطية، قيما سياسية سلبية لعل أهمها :

1. التواصل "الميتافيزيقي" مع الزعيم : فالأغنية كإبداع "فردي" تخلق تواصل عمودي بين مُبدع ( فرد ) وجمهور ( أفراد مَفعُول بهم ) وهو تواصل شبه ميتافيزيقي مبني على معايير غير موضوعية ( مفهوم الموهبة والإلهام من جهة والانبهار والإعجاب و"إيمان العجائز" ورفض مختلف أشكال الشك والمقارنة والتحليل...من جهة أخرى)، وعليه فانه تواصل عمودي ومُطلق من نفس طبيعة التواصل السياسي السائد وبخلاف ذلك فان الرياضة تنبني على نوع آخر من التواصل الذي يقوم على قيم "حديثة" وعقلانية مثل المحاسبة ( على أساس النتائج والأرقام والمقارنات...) والمشاركة وحق التعبير عن الرأي والاحتجاج بل ومعاقبة الرياضيين ومسؤوليهم..الخ.

2. الاحتفال بالجديد: بعد أن كان الهدف من الغناء مع جيل الرواد ( الذين عاشوا خارج أطر البيروقراطية الثقافية ) هو التوق إلي نوع من الخلود، أصبح مغنو اليوم يُقدّمون أغاني ذات استهلاك محدود في الزمن أو أحيانا ذات استهلاك واحد ( chanson jetable )، فمنطق الأغنية السائدة يكرس الاحتفال الدائم والساذج والمبالغ فيه بالجديد لمجرد انه جديد وفى غياب نقد مختص وإعلام حر وتعددية حقيقية يمكن لمثل هذه الحالة أن تكرس نوع من الاستقالة يُسلّم بمقتضاها الجمهور إلى السلطات الرسمية ( وخاصة التلفزة والإذاعة ) مُهمّة تحديد ذوقه ( الغنائي) بناء على معيار شبه وحيد :" الجديد يا رابح" . فجل البرامج التلفزية والاذاعية تتنافس من أجل الإحتفال بالجديد ( بغثه وسمينه ) وهو ما يُمكن أن يُعوّد الجمهور على الاحتفال بالجديد والفرح بما هو آني وحاضر ومُروج إعلاميا بدون تنمية أي حس نقدي أو ذوق شخصي أو وعي فني أو مساهمة في الاختيار..! ولعل التعود على "الجديد يا رابح" غنائيا من شأنه ان يدعم العقلية السياسية القائمة على مبدأ " لله ينصر من صبح " وهو مثل سياسي تونسي يؤدي نفس معني المثل العالمي " مات الملك عاش الملك".

3. الانخراط فى الاجماع : إن "منطق الأغنية" (وعلى غرار منطق السياسة ) يدفع بقوة باتجاه خلق إجماع جماهيري كبير يُغطّي كل " السوق" ويسعى إلى سحق أي منافسة وفى أسرع وقت مُمكن، وبقدر ما يسعى هذا المنطق إلي أن يكون الإجماع ساحقا ( حول أغنية أو نجم أو زعيم ) بقدر ما يعمل على ألا يغلق هذا الإجماع الباب أمام إمكانية ظهور اجماع جديد قد يُعوّض الإجماع الأول كلّما بلغت البضاعة المعروضة ذروة استهلاكيتها. وهو ما قد يُعوّد الجماهير على نوع من الانخراط السلبي في "الاختيارات الرسمية الكبرى" والتي تخلق وفاقا شاملا وساحقا ولكنه هش في نفس الوقت يُخول للسلطات العمومية إمكانية تحويل وجهته في أي وقت وفى أي اتجاه حسب الظروف.

4. نيابة الجماهير في المساندة السياسية : تقدم تونس عيّنة ( كاريكاتورية ) عن التوظيف السياسي الفج للأغنية ولرموزها إذ لا تكاد تمر مناسبة رسمّية أو حزبيّة أو حملة انتخابيّة إلا وتؤكد الأغنية ولائها المطلق للسلطة السياسية القائمة وتفننها فى مدح " التغيير " واختياراته السديدة ومشاريعه الرائدة في جميع المجالات.
ويبدو أن السلطة أصبحت ترفض الأغاني الرسمية المباشرة وتشجع نوع جديد من الأغاني " الوطنية " التى تتغني بفرحة الحياة فى " تونس العهد الجديد" بحيث يغيب اسم بن علي في الأغنية ولكن صورته ( وهو يدشن ويخطب ويعطف على الفقراء ) تملئ الكليب ! وتحرص السلطة على ان تجلب إلى" بلاطها " كل المغنيين وخاصة النجوم ليؤدوا نيابة عن الشعب فرائض الولاء والطاعة... بهدف التأثير غير المباشر علي الجماهير التي فقدت الثقة في المؤسسات الرسمية التي لا شغل لها سوى " تكثيف الدعاية وتنويعها وضمان نجاعتها"، فالجماهير العريضة المحرومة من التعبير عن رأيها ولم تجد غير " الإستقالة " إجابة علي سريالية الواقع السياسي.

فكيف يمكن، في غياب حد ادني من الشرعية والمصداقية والحريات وبدون أي إجراءات سياسية هامة او قرارات فى اتجاه انتظارات الجماهير، كيف يمكن فى مثل هذا الاطار القيام بتحفيز (ولو جزئي او مناسباتي ) التونسيين "المستقيلين" ومقاومة "اللامبالاة السياسية"؟. كيف يمكن تذكير الشعب بيوم 7 نوفمبر وإيهامه بأنه أعظم يوم في تاريخه المعاصر دون الاحتفالات الغنائية ونجومها ؟ تلك هي اشكالية التسويق السياسي الرسمي داخليا اذ باستثناء الغناء ونجومه لا شيء تقريبا يمكن أن يضمن نتائج سياسية "إيجابية" ( 14 )

5. خلق مرجعية ( تلفزية) رسمية: يسحق الاعلام الرسمي الجماهير يوميا و" يُعنّفها " بأغاني جديدة وجذّابة يبثّها باستمرار وبإلحاح ( في مختلف القنوات والبرامج وفي أوقات الذروة ) وتتميز جل هذه الاغاني بتشابهها شكلا ومضمونا وهو ما يدعو الى الريبة. فهل ان ذلك يريد أن يؤسّس لثقافة موسيقية ام لمرجعية تلفزية ؟

ان هذا الإعلام يكاد يفرض على " المواطنين " وخاصة الشبان، إذا أرادوا أن يكونوا مواكبين لعصرهم ولإيقاعه... أن يتقبلّوا بل وان ينخرطوا في نوع من "الإجماع الغنائي" المُغري وان يزكوه وان يلهثوا وراء آخر الأخبار المتعلقة ببعض الأغاني وببعض النجوم... وأن "ينتخبوا" التلفزة كمرجع أساسي لإختياراتهم ( الغنائية) والأغنية المتلفزة كمرجع هام من مصادر إلهامهم وأحلامهم وقيمهم وسلوكهم...الخ

ولعل الخطير في مجال انتشار الأغنية في تونس هو:

· تضخيمها كميا ( من حيث ساعات البث في الإذاعة والتلفزة ) وإعلاميا مما أدى إلي "إدمان" عديد التونسيين على الأغاني وهو ما تزامن مع انتشار الفضائيات العربية المتنافسة على اكتساب وفاء مشاهد عربي لم يعرف منذ عقود سوي تلفزات رسمية ركيكة ومُملّة. فعديد المشاهدين لا هم لهم سوى " ملاحقة " الأغاني من قناة إلى أخرى وقد تحولت الأغنية لدي عدة قنوات فضائية ( المفروض أنها عامة ) الي أهم مادة تلفزية ( ولعل سبب تضخمها يعود الي كونها " مقبولة " سياسيا وذات مردودية مالية محترمة باعتبار إعادة بثها لعدة مرات) .

· "كلبنتها" ( جعلها كليب ) اذ امتدت متعة الاغنية من الاذن الى العين بحيث أنها أصبحت تداعب الخيال وتراود الأحلام بشكل " عنيف " من خلال استهدافها مجموعة متكاملة من الملذات البصرية والسمعية المبرمجة بدقة وعناية وبإلحاح بحيث تخاطب الاحساس وتثير العواطف وتغازل المكبوت وتُزيّن الواقع وتقدم للمتفرج كمية مُعيّـنة من الوهم الذي يرميه فى أحضان صور ( وأجساد ) فاتنة وجميلة لواقع مثالي مُزيّـف، أبطاله من الشباب الوسيم ( بدرجة كبيرة من النمطيّة) وفى سعادة (مبالغ فيها ومُصطنعة) والكل مُصوّر ومُركّب ومُقدّم بطريقة لا تبحث إلا عن الإبهار والإغراء وسحر المُتفرّج وأسره ودفعه إلى الإدمان على استهلاك نفس الأغاني ( حتى لا أقول نفس الصور ).

6. الإيهام بسلطة الجماهير إن شعار السلطات العمومية عند تأكيدها على الأغنية هو تلبية رغبات الجماهير بحيث تبدو السياسة الغنائية وكأنها نابعة من حاجيات الجمهور الفعلية وتقدم على انها إحدى مظاهر الديموقراطية ( الثقافية )، غير أن الواضح أن كمية الاغاني ( فضلا عن نوعيتها ومواضيعها ) المروجة، تفضح التلاعب السياسي بهذا الموضوع.
فسياسة الأغنية ( شأنها شأن الخطاب السياسي ) لا تبحث عن أهداف نوعية أو بعيدة المدى بل تبحث عن الانتشار الواسع والسريع وبأيسر الوسائل وهي تعتمد أساسا الإعادة والتكرار ولا تعير خٌصوصيات المناطق وإختلاف الأزمنة والعقليات إلا إهتماما سطحيا.

وعليه، فنجاح السياسة الغنائية يعنى بث نفس الأغاني وبأكبر كمية ممكنة فى كل المناطق بحيث يُصبح معني الديمقراطية هو بث نفس "الأغنية" فى كل الجهات ولدي كل الفئات الاجتماعية وليس توفير الحرية وحق الاختيار الواعي والنقد. فالديمقراطية الغنائية ديمقراطية مُزيفة عمودية و"مفروضة" ولا تهدف اطلاقا الى" توعية" الجمهور والانصات اليه وتشريكه واحترامه بل الى توجيهه...( كيف استواء الظل والعود أعوج ؟)

إن تضخيم الأغنية لا يهدف الي صرف الجماهير عن قضاياها فقط وإنما أيضا إعطائها إحساسا كبيرا بالسعادة ووهم المساواة مع "الآخرين" ( حين غني ستينق وخاصة مايكل جكسن في تونس سعد كثير من الشباب للفرصة الاستثنائية التي أتيحت لهم ) وإعطائها انطباعا بأن السلطة مُسخرة لتلبية طلباتها.



4) دكتاتورية الأغنية وأغنية الدكتاتورية


إن المنطق الأمني المفروض علي السياسة الثقافية في تونس يٌشجّع مناخا من الإستقالة والخوف وجوا من السطحية وحالة كاروكاتورية من الردائة ويُعرقل ظهور أشكال من التعبيرالفني الحر وخاصة اذا كان فى إطار جماعي...فوظيفة الأغنية السائدة هي في آخر التحليل مزيد "فردنة" المجتمع واشغاله وتوجيهه وفرض ثقافة واختيارات معينة عليه...الخ. ولعله ليس افضل من الاغنية ( الرسمية ) تجسيدا للصمت ( الصاخب ) و تأكيدا للفراغ ( المُقنّع ) والابداع الثقافي ( الزائف فى أغلب الأحيان )، ففي مثل هذا الإطار يصبح من الأولويات السياسية تضخيم الأغنية ( خاصة نوع معين من الأغنية ) ذلك ان "الأيديولوجيا البوليسية" لا يمكن أن تطمئن لغير الأغنية الرسمية كشكل من أشكال ممارسة "المواطنة" لتعويض الجماهير لا فقط عن الكبت الذي تعيشه وإنما أيضا عن الضجر الذي ينتابها بسبب هيمنة الفراغ من جهة والخطاب الواحد والكاذب من جهة اخرى.

ففي غياب الجديد سياسيا لا بأس أن يصحَ المُستمع التونسي على أغنية جديدة وفى غياب أي اختيار سياسي لا مانع من أن تنفتح كل البرامج للاختيارات والاهداءات الغنائية ...فكل ذلك يمكن أن يعطي انطباعا بوجود حرية واختيار ومشاركة ..! تماما مثلما أن كل تألق غنائي ( خاصة في عواصم عربية " منافسة ") يُعطي إنطباعا بريادة وتفوق تفتقد إليهما تونس في مجالات أخري .



خاتمة



ان كل ما سبق ليس خاصا ببلد عربي دون آخر اذ تكاد تلتقى جميع الدول العربية في ارتفاع نسبة الأغاني في إذاعاتها وتلفزاتها الرسمية غير المختصة حيث الأغنية " تصول وتجول " في صحراء ثقافية لا تكاد تبث غير الغناء فى مجتمعات تتميز بارتفاع نسب الأمية لديها وضعف الحصانة النقدية ( سواء الغنائية او السمعية البصرية ) بما يجعلها فريسة سهلة لمختلف انواع الدعاية وخاصة الدعاية غير المباشرة التى تحاول تجميـل الصورة الرسمية للبلاد وتغييب الخصوصيات والمشاكل والتنوع والقضايا المصيرية... بل وتغيب بعض أهم مقومات الابداع الفني احيانا ( مثل التميز والإحساس ).

ولكن هل أن كل ما سبق الحديث عنه ينطبق فقط على الاغنية دون غيرها من الانتاجات الثقافية؟ وهل ان ذلك يتعلق فقط بتونس دون غيره من أقطار خريطة القمع العربي؟ وهل ان نجاح سياسة معينة في " سحر " الجماهير وتهميشها يعود الي قوة " الساحر" ونجاعة سحره أم الي ضعف "المسحور" ؟.



* علي فارس

كاتب من تونس


ملاحظات وهوامش

( 1 ) ان تحليل " سياسة الأغنية " يتجاوز تحليل السياسة القطاعية التي تشرف عليها وزارة الثقافة، ذلك أن الأغنية تُحضي بدعم هام ومتنوع من جل الوزارات ومن الحزب الحاكم ومختلف المنظمات والجمعيات التابعة له ويبدو أنها تتمتع أيضا بتسامح كبير من طرف إدارة الجباية..الخ ومن خلال دراسة السياسة الثقافية التونسية يتبين أن هنالك مفارقة غريبة إذ بقدر ما تحرص السلطات العمومية على ألا تظهر الأغنية كعنوان رئيسي في الوثائق والخطب الرسمية ( تنظيرا و تمويلا و بنية تحتية وتشجيعا وتصورا وإدارة ...) بقدر ما تحتل هذه الأخيرة ميدانيا وماديا أهمية مبالغ فيها لدى مختلف الإدارات والهياكل المعنية وخاصة منها وزارات الثقافة والإعلام والسياحة والداخلية ( البلديات ),

( 2 ) والمُدقّق في هذا الثالوث يُفاجئ بأن عبد الوهاب يوضع ( وأحيانا تضاف إليه أم كلثوم كرمزين من رموز الطرب ) على قدم المساواة مع مُتعتين "ممنوعتين" : الخمر والجنس المحرم ( وهما يَستمِدان بعض قُوّتهما الإغرائية من تحقيرهما اجتماعيا وتحريمهما دينيا والتضييق عليهما قانونيا ). فلماذا يضع هذا المثل التونسي الأغنية في هذا المقام ؟ هل أن ذلك لمجرد التأكيد على أهميتها الاستثنائية ؟ ثم ما الذي يجمع بين الجنس والخمر والطرب ؟ هل هو الانتشاء و "التخمر" ونسيان الواقع ؟ اذا كان الأمر كذلك هل يمكن اعتبار ثالوث الخمر والجنس والطرب شعار لـ "إيديولوجية" يعتنقها عدد هام من التونسيين وذلك بتشجيع رسمي هام وذكي؟ ان مثل هذا التشجيع يمكن أن يرتكز بسهولة علي مبدأ " إذا لقيت زهو وطرب..." للتنظير إلى الانقطاع كليّا إلى الملذات والشهوات ولتحويل هذه الأخيرة إلى من وسلة الى غاية ( وحيدة ).

( 3 ) اضافة الي الترفيه والترويح عن النفس... فان اللأغنية تحاول " فرض" الابتسامة وترويج "الفرح الدائم" والايهام بـ" فرحة الشعب" والإلحاح علي مظاهر نمطية للسعادة وكليشيهات "سياحية" عن البلاد والعباد...و تعمل على تغييب الفوارق والمشاكل الاجتماعية...و"بيع" بعض الأحلام والآمال والأوهام ( مثل وهم المساواة فيما يتعلق بالاستهلاك الغنائي.. الخ),

( 4 ) المقصود بالأغنية الرسمية هنا الأغنية التي تركز عليها وسائل الاعلام الرسمية.

( 5 ) " لقد انتقلنا من الإنتاج الثقافي كعلاقة تعبيرية بين مُعبّر ومُعبّر له الي إنتاج ثقافي آلي حشوي نعمّر به الأدمغة ونُقدّمه كما يٌقدّم الحشيش إلى البهائم لتعلفه في أوقات مضبوطة " عبد الوهاب بوحديبة، (" فصول عن المجتمع والدين" ص 89، الدار التونسية للنشر،1992 )، في هذا المجال يمكن أيضا مراجعة كتابات السيدة بدرة بشير، وخاصة كتابها " les éléments du fait théâtrales en Tunisie " ( نشر CERES، 1993 ).

( 6 ) شكلت الحملات الانتخابية في تونس ( وخاصة سنتي 1994 و 1999 ) مناسبة لإثبات علاقة التبعية التي تربط وزارة الثقافة والمغنيين بالحزب الحاكم، فقد تجنّدت وزارة الثقافة لإحياء حفلات غنائية على هامش الحملات الانتخابية لمرشحي الحزب الحاكم و في غياب أي نقاشات سياسية كانت الأغنية بطلة هذه الحملات بامتياز فعمت كل الجهات ولم يكد يتخلف عن هذه الطقوس أي مغني وقد قدم جلهم أغاني غير سياسية، اذ لم تكن غاية هذه الحملات المدح المباشر وإنما تحويل الانتخابات الي احتفالات يتم خلالها بث الفرح والسعادة "مجانا" واستغلال صورة "النجوم" وشعبيتهم للتأثير على الجماهير ( وهو ما يعني انتقال ساحة المعارك السياسية في دولة غير متقدمة من دائرة المبادئ والسياسات والشعارات الى دائرة التسويق والتزويق وما يعنيه من الانتقال بالسياسة من دائرة السياسة ورموزها الى سلطة المال والفرجة والنجوم بحيث يصبح حفل غنائي انتخابي في كل جهة بديلا عن اللقاءات والجولات الانتخابية )

( 7 ) بخلاف السينما والمسرح ( وكل الرياضات ) فان الأغنية التونسية لا تعيش أي شكل من أشكال المسابقات الدولية الجادة فمهرجان الأغنية مثلا ولد متأخرا وقد ولد تونسيا 100 % وظل كذلك ( بخلاف ايام قرطاج السينمائية والمسرحية ) رغم أن الإعلام الرسمي ( خاصة التلفزة والاذاعة ) يسمح داخله بمنافسة عربية هامة للأغنية التونسية وهي منافسة شرسة وغير متكافئة ( من حيث النوعية التقنية وأساليب الدعاية ) وغير محددة بأي معيار موضوعي ( من حيث الكمية اذ لا وجود لنظام الحصص أو لقيس طلبات الجمهور).

( 8 ) وتهيمن الأغنية خاصة علي المهرجانات الصيفية وهي تختفي، في أغلب الأحيان، وراء مصطلحات غير دقيقة ( حفل فني، تنشيط ثقافي، مهرجان صيفي..) وقد تطورت ميزانية المهرجانات الصيفية في تونس ( وأغلبها مهرجانات غنائية ) لتصل الي 33 % من ميزانية وزارة الثقافة ! وتطور عددها ليحقق رقما قياسيا عربيا وافريقيا ! ( " بلد المهرجانات" مجلة جون أفريك عدد 1960 اوت 1998 ص 66 و 67 ).

( 9 ) قدم الفاضل الجزيري سلسلة من العروض الغنائية "الجريئة" والتى توحي في ظاهرها بوجود هامش من الحرية وتوهم بوجود تجارب مختلفة وبتنوع الجمهور غير أن هذه "العروض العمومية كانت ( وخاصة بفضل ضخامة التمويل والدعاية ) مُعدّة سلفا للنجاح وموجهة الي نفس المسالك الرسمية ( تلفزة ومهرجانات ... ) والي نفس الجمهور " المُروّض". فقد نجحت "الإدارة الثقافية" في بداية التسعينات في امتصاص رغبة جارفة للمثقفين وللجماهير فى التحرر من الرقابة والتصالح مع الواقع وثرائه وذلك من خلال إقحامها أنماطا غنائية غير مرغوب فيها سابقا مثل " المزود" ( وهو غناء شعبي كان الي سنة 1992 ممنوعا فى وسائل الاعلام الرسمية بدعوى انه سوقي ومُبتذل ) و"السلامية" ( إنشاد ديني كان في ذلك الوقت محاصرا حصارا خانقا في إطار الحملة ضد الحركات الإسلامية ) في " السوق الغنائية الرسمية" وقد نجحت في تسويقها إلى ( نفس ) الجمهور بنفس الطريقة وبنفس الأهداف ونجحت في طي صفحتها بسرعة وربما يعود هذا "النجاح" إلى إن "الإدارة الثقافية" تلعب في نفس الوقت أدوارا متعددة ومتناقضة إذ هي المنتج والمنتج المنفذ والدعائي والرقيب والناقد والمستهلك ( شراء عروض ...)...الخ، فهي في هذا المجال تتصرف بحرية شبه مطلقة على نمط الدول الشيوعية، من هنا يبدو ذكيا احتواء السلطة السياسية في تونس بُعيد 1987، لموجة الأغنية الملتزمة لان أخطر ما كان في هذه الموجة ليس مضمونها السياسي ولا قيمتها الموسيقية وإنما قدرتها على خلق مسالك توزيع موازية وجمهور مُختلف وتحررها من "إشراف " "الإدارة"! ويبدو أن تُعويم بعض التجارب الملتزمة في إطار المهرجانات الصيفية والبرامج التلفزية العادية على قدم المساواة مع بقية الأنماط الغنائية الاخرى ودون اي مصاحبة نقدية جعل الجمهور يتفاعل معها كموضة لا غير ويستهلكها كأي منتوج غنائي آخر بنفس الطريقة وبنفس السطحية وينساها بسرعة.

( 10 ) يمكن علي سبيل المثال مراجعة ما تكتبه، منذ سنوات، الناقدة السينمائية سميرة الدامي فى ملحق الأحد لجريدة La presse حول البرامج التلفزية التونسية.

( 11 ) حضيت الرياضة عموما ومنذ الألعاب الأولمبية لسنة 1936، التي أحتضنها ألمانيا النازية، بعدة دراسات نقدية تفضح ما يمكن أن تلعبه من وظائف سياسية، كما تعرضت الرياضة فى نهاية القرن العشرين إلى موجة من النقد خاصة بعد تزايد الرهانات المالية والسياسية المرتبطة بها وما تسببت فيه من فضائح لوثت سمعة بعض الرياضيين والمسؤولين سواء بسبب المنشطات أو الرشاوى أو غير ذلك. وقد كانت كرة القدم تحديدا موضوع عديد الدراسات السياسية ( ذهبت بعضها الي حد اعتبارها " افيون الشعوب ") وذلك بخلاف الأغنية التي ظلت بعيدة عن الاهتمام الأكاديمي رغم تزايد الوعي العربي بالوظائف السياسية لتضخيم الأغنية إذ يذهب بعض المحافظين إلى حد تحميل أم كلثوم شخصيا مسؤولية الهزيمة التي لحقت بالعرب في حرب 1967!.

( 12 ) لا يعود الفرق في إدراك الجمهور لكل من الغناء وكرة القدم إلى أن الأول يُمارس عادة في شكل فردي ( أو يبدو كذلك ) وان الطابع الجماعي في كرة القدم أكثر وضوحا، اذ أن ما ينطبق علي إدراك الجمهور لكرة القدم ينطبق علي إدراكه لجل الرياضات بما في ذلك الرياضات الفردية ويعود ذلك أساسا الي حداثة التوظيف السياسي للأغنية ،

( 13 ) بخلاف الغناء تقوم كرة القدم على مفاهيم حربية وقيم قبلية تعكسها بوضوح المصطلحات المستعملة في التعليق عليها (مواجهة، صدام، إقصاء، هجوم، انتصار، خصم ،..الخ) والقيم الضمنية التي تُروِجها (والتي ترتكز على مفاهيم الانتماء والانتقام، والتعصب..الخ) وهو ما من شأنه تقسيم الجماهير وتأليب بعضها ضد بعض.

( 14 ) ويمكن التذكير في هذا المجال أن الاحتفالات الأولى بانقلاب 7 نوفمبر 1987 كانت تتضمن دورة دولية في كرة القدم حرص المشرفون عليها على استدعاء منتخبات في متناول المنتخب التونسي لكي يخرج الجمهور فرحا مسرورا وهو ما لم يتحقق لان جمهور كرة القدم يرفض الانتصارات السهلة خاصة أمام المشكل الذي تسببت فيه نيجيريا عند طلبها المشاركة في إحدى هذه الدورات وهو ما أحرج السلطات التونسية التى رفضت الطلب وهو ما كشف البعد السياسي من وراء تنظيم هذه الدورة وعجل بفشلها
Lire la suite ...!

2011/03/11

ان عدتم عدنا شعار الثورة التونسية ورمزية القصبة



ان عُــــدتُـم عُـــدنا
لا يزال عدد كبير من السِياسِيين والمُعلقين يتعَجبُون من غياب القادة والزعماء والتأطير ....الخ .
ويبدو أنهُم جميعا يفكرون بنفس مُنطلقات بن علي اي التفكير في الدور المركزي للسلطة السياسية في إحداث او مواصلة او تحقيق الثورة وكل ما يعنيه ذلك من ضرورة تأطير الجماهير ( أي توجيهها ) بإنشاء واستعمال الهياكل والقادة وحزمة الأدوات النظرية والتنفيذية لتمارس الدولة مراقبتها على المجتمع المدني وليمارسا معا مراقبتهما على المجتمع بأسره.
وأكاد أجزم بأن كل الحداثة العربية قامت على مثل هذه المُقاربة المُعتمدة على محورية جهاز الدولة وتوابعه سواء كانت مقاربة فكرية أو عملية .
وللتذكير فان جل التجارب العملية قامت على سلطة ( وسطوة ) المؤسسة العسكرية سواء تعلق الأمر بمصر محمد على أو بتونس حسين باي الثاني .
ما شعرتُ به في الشارع التونسي انه لا وجود لأي انزعاج بسبب ما يعتبره البعض "غياب" للزعامات....ومن اللافت للانتباه ان جل من كانوا يستغربون غياب الزعامات الثورة كانوا يحذرون من "الفراغات" ( السياسية والدستورية ) ويطلبون صراحة او ضمنيا "هدنة ثورية" حتى تُولد وتقوى الأحزاب والزعامات والهياكل الجديدة "تأطير الشباب" وترويض المجتمع " المُنفلت" .
والحال ان شباب تونس أصبح فعليا يُمارس دورًا رقابيّا هاما ويُفكر بوعي عملي في خلق ومراقبة السلطات المُضادة وقد شرع فعليا في تنظيم صفوفه سواء افتراضيا او في الواقع .
وهذا الدور الرقابي الجديد، لا يحتاج بطبعه الي نجوم وزعماء وفضاءات وهياكل كلاسيكية..الخ.
وليس من قبيل الصُدفة انه، حتى بعد 14 جانفي 2011 ورغم نهم التلفازات الإخبارية وحاجتها الي صنع نجوم، فإن اعتصامي القصبة لم يتركا في الأذهان صورة شخص او زعيم او حزب بقدر ما تركا شعار " ان عُــدتم عُــدنا " وهو في سياق الثورة التونسية يُعبر عن مفهوم جديد يؤسس لفكر مستقبلي .
انه شعار هام ولد في القصبة ولكنه يعبر عن كل الجهات والمغيبين وهو يُهدد الجميع حكومة ومُعارضة وإعلام وأشباه مثقفين....الخ بالعودة لا الي القصبة بل الي نفس الأشكال والأساليب التي ابتدعتها الثورة التونسية
ولعل أفضل ما في هذا الشعار الشرطي أن الشرط غير مُحدد وان جواب الشرط من جنسه وكأنه مسبوق بالمثل التونسي «ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة" بل ان عموميته تجعله قابل للتطور والتأقلم بل والخلود.
انه شعار يشكل قطيعة جذرية مع فكر كان طيلة قرون يخلط بين السلطة والدولة ويفترض ان السلطة السياسية هي مفتاح "النهضة" و"الحداثة" وانها ستلدُ المؤسسات والقيم الديمقراطية والمواطنة.. وأنها بعد ان تصنع لنا كل ذلك ستكون الحارسة الأمينة للمجتمع المدني الذي ستخلقُه لكي يُزاحِمها في السُلطة ويراقبها...
يبدو ان مثل هذه المقولات سقطت مع بن علي ونظامه وقد تبين اليوم ان شباب لا يعرف بعض المثقفين من اين وكيف ولماذا خرج ؟، يُريدُ أن يُمارس "مواطنة هجُومية" ضد الجميع : ضد الحكومة والإدارة والمعارضة والمثقفين والصحافة "والمخزن" والجمعيات ....فالجميع ، من زاوية هذا الشعار، في حالة " سراح شرطي".
ولعل أجمل مُفارقة في هذا السياق، ان "تعليق" اعتصام القصبة ومُنعرج الثورة الشبابية التونسية تما تحت عباءة شيخين تجاوزا الثمانين سنة من العمر.
ولعل ذلك جزء من الدرس التونسي الذي لم يفهمه الكثيرون، فالثورة تناضل من اجل قيم ومفاهيم مُجردة وهي ثورة "عقلانية" ورصينة وأصيلة ترفض مُمارسة السلطة السياسية وتكره الإحكام المسبقة ( والايديولوجيا ) والزعامات وتطالب ببرامج واضحة وسياسات صادقة وبشفافية مُطلقة وبرقابة دائمة وشاملة وحاسمة.
من الداخلية الي القصبة
مباشرة بعد وزارة الداخلية ( رمز النقمة الشعبية على المؤسسات الحديثة للقمع ) انتقل الغضب الشعبي إلي ساحة مثقلة بالرموز والتاريخ.
فبخلاف الداخلية وشارع الحبيب بورقيبة وقصر قرطاج ورموز ما بعد 1956، فان القصبة هي رمز الدولة المركزية الحديثة في تونس ، وقد شكلت ساحتها طيلة عقود "وزارة داخلية مفتوحة" وكانت مسرحا يأتم معنى كلمة مسرح، للعروض العُمومية لجرائم الدولة المخزنية/العسكرية حيث كانت السلطة تتفنن في ممارسة أبشع جرائم التنكيل والتعذيب والتقطيع والشواء والسحل والعبث بأجساد المعارضين والثوار وقطع أطرافهم ...ومن بينهم أبطال ثورة الحنانشة ( 1739) وزعيمهم بوعزيز بن نصر الحناشي وعدد من قادة ثورة علي بن غذاهم ( 1864 ) .
ولئن عرفت القصبة عُروضا لأكل لحُوم المُعارضين أحياء والتنكيل بهم فإنها اشتهرت بطقوس سياسية شبه رسمية تتمثل في تعليق جثث المعارضين بها لعدة أيام او عرض رؤوسهم بالنسبة لمن قتل بعيدا عن الحاضرة ولعل من أشهر تلك الرؤوس "القصبوية" رأس حسين باي مؤسس الدولة الحسينية ( 1705-1957 ) الذي عرض بها سنة 1740 بعد أن قتله حزب الباشية ( التابع لابن أخيه علي باشا ) في القيروان.
فالقصبة كادت ان تختص في التفنن في الإخراج الدعائي للجرائم السياسية الرسمية حتى تبث الخوف والرعب في الرعية وحتى يكون مُجرد اسم القصبة عبرة لمن يعتبر وحلما مزعجا يُولد مع كل مولود تونسي فالقصبة وبخلاف ساحات أخرى مثل ساحة باردو والتي اختصت بالإعدامات العمومية "العادية"المُتعلقة بقضايا الحق العام بمختلف أشكال تنفيذها، كانت أكثر من أسطورة حية ولا ادري لماذا غفل عنها السينمائيون حتى أتاهم حديث المعتصمين فانتبهوا الي بعض عمقها.
لقد تذكرتُ كل ما دونه ابن ابي ضياف وغيره عن ساحة القصبة واختلطت المشاهد المتناقضة في ذهني وانا أتابع شريطا سرياليا بتركيب موازي يمزج بين مشاهد الماضي الفظيع ومشاهد الرقص والأغاني والقبلات والإبتسامات والفتيات ...لقد اختلط الصراخ والبكاء في أذني بأغاني الفرح وبنشيد الاعتصام وامتزج قهر الماضي بغصة الفرحة ....
وكأن التاريخ انتقم لنفسه وكأن القصبة انتفضت لشهدائها ( وكان جلهم من الجهات ) فأحييتهم ثوارًا يعشقون الحياة والحرية وكأن القصبة هي التي اعدمت دولة القمع والبطش والاعتباطية وكأنها هي التي استولت على سلاح الخوف، لأول مرة في تاريخ تونس، وحولته ضد الماسكين بالسلطة السياسية.
فليس صدفة أن أكبر ثورة في التاريخ المعاصر احتضنتها ساحة غارقة في الرمزية السياسية وأرجو وان تحتضن متحفا لذاكرة المكان ولرموز الثورة.
سفيان الرقيقي
11 مارس 2011
Lire la suite ...!

2011/02/15

ETAP المؤسسة البترولية

من النرويج الي الجزائر مُرورا بماليزيا واندونيسيا، فان مهام المؤسسة الوطنية للبترول، واضحة قانونيا وعمليا الا في تونس...وهذه المؤسسة الإستراتيجية تُسير في جميع الدول من قبل كفاءات عالمية الا في تونس ...وهي في جميع الدول تنشر بعض الأرقام والتقارير وتهتم بها الصحافة ويتابعها المُختصون، الا في تونس ....وهي من أول المؤسسات التي يُغيرٌ مسؤولوها بعد سقوط الدكتاتوريات ( مثل اندونيسيا سنة 1998 ) الا في تونس....
ثم ان جل القطاعات الاقتصادية هاجمها النقابيون سواء التابعين لجراد او لمعارضيه، إلا قطاع البترول فيتفق الجميع مع الحكومة على عدم التعرض اليه بالنقد بل يُزايد البعض فيؤكد نظافته وخلوه من الطرابلسية ومن الفساد...
أليس غريب هذا المشهد؟ ان هذا الاستثناء البترولي مٌريب...ولكن ليس هذا موضوع هذه البطاقة فسأعود لقضايا الفساد لاحقا.
أريد أن أتوجه الى كل الزملاء بشيء من التذكير. فحين بادرت مجموعة من أعوان المؤسسة برفض ما أعد في الكواليس وطالبوا بحقهم في التعبير عن رأيهم والمشاركة في اخذ القرارات، ظن البعض بأن المبادرة تستهدف تقسيم النضال وضرب وحدة الصف النقابي وتهميش المطالب ...الخ وحين رفعت نفس المجموعة في لائحة يوم 10 فيفري 2010 خمسة مطالب نوعية ( تتراوح بين مقاومة الفساد وإعادة هيكلة المؤسسة والحق في الإعلام... ) أعلن البعض أنها مطالب نخبوية ضيقة وتقنية وغير مفهومة وليس حولها إجماع قاعدي...الخ.
في انتظار تشكيل "لجنة مقاومة الرشوة وتجاوز السلطة " المعلن عنها منذ شهر لمدها بما نملك من وثائق ومعلومات تقنية تقدر رهاناتها بالمليارات، أكتب اليوم وبصفتي الشخصية عن نوع آخر من الإجرام الذي لا يقل فظاعة عن الإجرام المالي وهو لا يحتاج الى أي إثبات او فلسفة لانه خبزنا اليومي .
سأذكر بعض الأمثلة فقط واترك لكم حرية إضافة امثلة أخرى قد أكون نسيتها او لم أجد الشجاعة لذكرها وهي تؤكد مَؤسَسَة الإجرام ضد الذات البشرية وضد قيم الكرامة والاحترام والمساواة في تسيير المؤسسة وفروعها .
فأنا لا أتحدث عن أخطاء فردية أو معزولة أو عن أشخاص يمكن عزلهم بل عن نظام تسيير متخلف وعن ممارسات ممنهجة ومقصودة .
فبعد شهر كامل من الثورة وبعد ان حصلت عدة تطورات بالبلاد وداخل عديد المؤسسات وبعد ان اسقطت ثورتنا مسؤولين ورؤساء دول ، لا تزال مؤسستنا تغط في نوم سريالي ولا تزال مُنقطعة عن البترول ومنطقه وعن الثورة وأولوياتها فهي لا تزال تتصرف اعتمادا على أدواتها القديمة المُتخلفة مثل :
• "الفريجيدار" والتكسير وتحطيم الأشخاص وإهانتهم وعزل بعض الكفاءات بدون مُوجب والانتقام والتشفي من بعض الأعوان خارج إطار القانون وبغير مُوجب او إجراء تأديبي...انها سياسة "أنا ربكم الأعلى" و"كول ولى كسر قرنك "
• المساومة والتهديد ومُحاولة شراء الذمم وترويج الإشاعات وسياسة فرق تسد وتجنيد "القوادة"..الخ
• رفض تقديم اي مبادرة في اتجاه الاعتراف بالأخطاء او فتح تحقيقات أو وضع برامج إصلاح
• الإصرار على لعب "الوقت الضائع" وعدم التضحية بأي رمز من رموز الفساد سواء بالمؤسسة او بفروعها
• مُواصلة سياسة التعتيم الإعلامي الشامل حول ما يحصل ببعض الفروع او ما يدور في الكواليس او مع يتم من مشاورات مع وزارة الإشراف او مع بعض الاطراف.
• رفض حقنا الطبيعي في الحديث عن القطاع وعن الفساد وعن الكرامة ومُحاولة اختزال مطالبنا الشرعية في بعض المطالب المادية الآنية والضيقة
• تجاهل كل الاتصالات والمقالات التي صدرت وعدم التعليق على اي من اللوائح الصادرة من قبل الأعوان ومحاولة الضغط على اصحابها بشكل فردي
• مواصلة اتخاذ قرارات إدارية اعتباطية مثل القرارات الأخيرة المتعلقة بالإلحاق
• مواصلة التدخل السافر لدى بعض الشركات الأجنبية لحثها ومُساومتها من أجل طرد بعض الكفاءات التي اختارت مُمارسة حقها في الاستقالة...فالإدارة تُمارس مع بعض الإطارات سياسة "في التراب ولا في كروش ولاد الايتاب".
• مواصلة استعمال التكوين والتسميات والإلحاق والامتيازات وغيرها من الحقوق...لتكريس الولاء والقفة والقوادة والبهامة والرضوخ للأوامر الشفاهية ...فهل يُعقل ان يُستعمل التكوين للعقاب والمجازاة ومن أجل تقسيم الأعوان بين "موالاة" و"معارضة" ؟
• مواصلة التفرد بالسلطة بما جعل عدة قرارات إستراتيجية تختزل في شطحات شخص او اثنين يأمرون فيُطاعون .
• الإصرار على الإبقاء على بعض الأشخاص ممن لا اختصاص لهم ولا خبرة في مواقع حساسة سواء داخل المؤسسة او في فروعها
• غياب اي سياسة للتداول على المناصب أو لتكوين المُعوضين واستغلال ذلك للقيام بانتدابات خارجية مُرتجلة وغير واضحة .
• مواصلة تكريس علاقات مشبوهة وغير مؤسستية مع مختلف الفروع وغياب الشفافية في المعاملات معها
• القيام بانتدابات مطعون في نزاهة بعضها،
• الابقاء على عديدي المنتدبين الجدد بدون آفاق وبدون عمل فعلي وبدون برامج تكوين او إدماج أو تأطير حقيقية
في الختام اقول أن لكل دولة رجالها ودون الطعن في الأشخاص فاني لا أعتقد ان الماسكين بقطاع الطاقة اليوم قادرين ان يتأقلموا مع مقتضيات المرحلة الجديدة.
فلقد خصصوا شهرا كاملا في التهديد والوعيد والتكنبين...ومُحاولة المُحافظة على الوضع السابق وفي الإثناء تغير وجه البلاد ولغة الحكومة فقد كنست الثورة التجمع ولغته وكنست عديد المسؤولين وقامت وزارات عدة بحملات تنظيف واذنت بفتح تحقيقات وقد أصبح لوزارة الداخلية مثلا صفحة فايس بوك يعد عشاقها بالآلاف وتحررت الصحافة ....الخ، أما عندنا فدار لقمان على حالها...وبعضهم لا يزال يهددنا بكل حزم ويبدو انه لم يصل بعد الي مستوى خطاب 13 جانفي الشهير فنحن في مؤسستنا، لم نصل بعد إلى "فهمتكم" ...
Lire la suite ...!

2011/02/08

دماء الشهداء تغذي الانتهازية والضحالة والسُراق

دماء الشهداء تغذي الانتهازية والضحالة والسُراق
ان الدماء التي سالت في تونس كانت تطالب بالعدالة وبتكافؤ الفرص وبالشفافية في التشغيل...فقد انطلقت الثورة ومنذ انتفاضة الحوض المنجمي كثورة من اجل فرض الحق في الشغل الكريم وضد المُمارسات المافيوزية المُهيمنة على الانتدابات بالمؤسسات العمومية وهي ممارسات غير خافية على احد وتهيمن عليها رائحة الرشوة والتجمع واتحاد الشغل والمافيا...
والي يوم 14 جانفي 2011 كانت الانتدابات بالمؤسسات العمومية الهامة وفروعها انتدابات إجرامية في حق المؤسسات والمستقبل والبلاد وكانت تكرس الضحالة والزبونية وتتعمد الاستهزاء بمبدأ المناظرة وبقيم الكفاءة والجدارة.
أرسلوا سيرة ذاتية لأكبر مهندس في العالم الي اي مناظرة بأتفه مؤسسة عمومية في تونس فلن تجيب الا أبناء المحضوضين ...اطلبوا قائمة " النقابيين " وعائلاتهم وأقاربهم المنتدبين ببعض الشركات العمومية المعروفة وفروعها سواء كانوا متعلمين ام اميين...
ان مهازل الانتدابات كمهازل الانتخابات يعرفها كل الوزراء والمسؤولين ولا تفرز غير الضحالة والفساد وكل هذه التجاوزات معلومة ومكشوفة وموثقة وهي لا تغذي سوى الحقد والكراهية والاستقالة الجماعية
نحن اليوم نعاني من مديرين فاسدين ولكني اعترف ان أغلبهم كان قد انتدب بطرق عادية وتدرج في الفساد حتي بلغ فيه درجات عالية أما اليوم فأنا أتسائل كيف سيُصبح مسؤولو الغد وقد انتدبوا منذ اليوم الأول وهم خبراء في الفساد وأساتذة في الوصولية وبعضهم له مشاريع موازية او ذات علاقة بالعمل.
عوض فتح هذه الملفات التف البعض على الموضوع بكلمة حق يراد بها باطل فنادوا باسم الثورة وبدعوى رفض المناولة وأشكال العمل الهش بترسيم من سرقوا أماكن غيرهم من العاطلين وممن لم ينجحوا في اي مناظرة .
طبعا انا لا أعمم ولا اشكك في عدالة قضية رفض المُناولة ورفض أشكال العمل الهش...ولكني لا اقبل ان تستغل قضايا نبيلة لخدمة أغراض حقيرة...
ان وقاحة بعض المسؤولين لا حدود لها فعوض الاختفاء والصمت وطلب العفو والقيام بنقد ذاتي يسارعون باستنفاذ كل ما بقي لديهم من انتهازية و"سقوطية" في جني خدمات "اللحظة الأخيرة" .
لن أطعن في كل المناظرات والانتدابات في المؤسسات العمومية وفروعها ولن أطالب بالتحقيق مع كل من اسقط "الأكفاء" من المناظرات لتعويضهم ببعض المحضوضات والمحضوضين ...ولكني أتسائل هل يجوز استعمال كلمة ثورة قبل عزل هؤلاء "الخماج" ؟...
حين استمعت لأول مرة لشعار "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" تأثرت الى حد البكاء...وللاسف فان الانتدابات قبل 14 جانفي او بعده تتم بنفس المحاصصة المافيوزية .
Lire la suite ...!

2011/02/06

رسالة الي سي خميس الخياطي حول مقاله "راب ..لتفشي الجهالة والكراهية

دفاعا عن الحرية :
وضد تفشي كل ألوان الجهالة والكراهية .
( رسالة الي سي خميس الخياطي حول مقاله "راب ..لتفشي الجهالة والكراهية")
(كتبت قبل 14جانفي وبعد الثورة ظننتُ انها أصبحت متجاوزة ولكني اكتشفت انها تعبر عن المرحلة الحالية أيضا خاصة وانها تنتهي بحلم مثالي جميل فقررتُ نشرها مع العلم اني اخذتُ بعين الإعتبار ملاحظات خميس الخياطي حول النسخة الأولى )

سيدي، منذ سنة تقريبا، خصّصتُم مقالكم " كليب الحرب النفسية وروبافيكيا السلفية" لأغنية رَاب مَغمُورة وجعلتمُوها جَديرة بالنشر والتنديد وقد تميز مقالكم آنذلك بـ"حيرة وثورة وغضب" وبالبحث والعثور على "نوايا إجرامية" ثم انتهي إلي الدعوة الي الاحتماء بقيم "الإسلام التونسي " (؟).
وفي إطار مُساندة بعض الفنانات والمثقفات، عُدتم إلي نفس الموضوع من خلال شتم أغنية رَاب جديدة لمُغني آخر وقد زدتم هذه المرة "في التنبُور نغمة " من خلال توظيف قضية عادلة ومنشورة ( في الثلب ) للترويج لجريمة خطيرة : التعدي علي الوطن .

1. تذكير بالأصول
• ان الأصل في الأشياء هو الإباحة وفي الفن الحرية وفي الصحافة والانترنات، هو النشر والنشر المُضاد والأصل في النقد الفني هو التعبير عن الرأي وليس الاستنجاد بالقوانين الزجرية.
• ان الأغنية التي اخترتم " مُحاكمتها "، ومهما كانت تفاهتها، تظل مُجرد أغنية انترناتية وليست مُخدرات او متفجرات .
• ان الوطن لا يحتاج صحفيين ينبشون في الانترنات عن أتفه الكليبات لمُحاكتها.

2. من يُحاكم ماذا ؟ وباسم إي قيم ؟
هل ان هذا الكليب هو أحقر أغنية راب تونسية؟ وعلى افتراض انه كذلك، فهل هو أتفه إنتاج " ثقافي" تونسي لسنة 2010 ؟
لدي قائمة في أعمال "ثقافية" تشكل كارثة ، لا بسبب ضحالتها شكلا ومضمونا فقط وإنما أيضا بسبب تبديدها للمال العام أو ترويجها من قبل بعض المؤسسات الرسمية على أنها " نماذج إبداعية ".
فوسائل الإعلام الرسمية وشبه الرسمية، تُروج لعديد الأعمال السخيفة بل أنها تبُث أحيانا ما يُشجعُ علي الكراهية والعنف والعنصرية وما ينسفُ أبسط قيم الجمهورية والمواطنة والمساواة...الخ .
ان المشهد الإعلامي والثقافي في تونس يتميز بالقحط والفراغ وبشيء من الفوضى وبغياب جهات مهنية فاعلة تسهر علي تنظيمه والارتقاء به أو على الأقل الحد من انحداره نحو "أسفل السافلين" .
سيدي من حقكم "مهاجمة " الأفكار السياسية والدينية لهذه الأغنية ولكن ليس من حقكم ولا من حق السلطة محاكمة اي اغنية او التلويح بمنع اي كليب لمُجرد انه تافه .
وعموما، فاذا كان لا بد من "مُحاكمات"، فان الجهة التي يجب مُحاكمتها ( سياسيا ) هي وزارة الثقافة وجل المؤسسات العمومية المسؤولة عن السياسة الثقافية ( تصورا وتخطيطا وتمويلا وتنفيذا وتقويما.. ) ذلك أنها تفتقد الي أهداف إستراتيجية واضحة والي مؤسسات فاعلة ويبدو انها تختزل السياسة الثقافية في مستوى التنشيط الثقافي وتختزل التنشيط في ارتجال برامج استهلاكية نمطية وتختزل البرمجة التنشيطية المُرتجلة في مستوى التنشيط الغنائي الركيك. فالسياسة الثقافية تُغيّبُ الثقافة كإبداع وتُهمّشُ بشكل مُتزايد البحث والتكوين والاختصاص والنقد...الخ.
خلاصة القول، ان الظروف الثقافية اليوم بالنسبة الي الإبداع الحُر ( إنتاجا وترويجا ) تبدُو أصعب مما كانت عليه طيلة الحكم العثماني وإبان الاحتلال الفرنسي اذ يكاد يستحيل اليوم ترويج شريط غنائي او ديوان شعر "غير رسمي"، واذا كان هذا حال الغناء والشعر فلا تسل عن الفنون المُكلفة .
فمن يتحمل مسؤولية إفراغ الساحة الثقافية وتفشي الضحالة والجهالة والكراهية ؟ من نَصّبَ الدُخلاء مسؤولين علي الإبداع ؟ ومن يحكم علي الفن بمنطق الولاء ؟ ومن حول الفنون الي دعاية ؟ من حول مركز الفن الحي الي نادي عسكري؟ وأين " الثقافة الموازية" ؟ اين ذهب الحراك الثقافي الذي عرفته الثمانينات ؟
سيدي نحن نعيش عصرا ثقافيا غريبا تغولت فيه الادراة الثقافية وهيمنت "الثقافة الادارية".
فهل حصل في زمن من الأزمان ومنذ الرومان، ان نجحت سلطة سياسية مركزية في فرض نفس الأغاني ( الرسمية وشبه الرسمية ) في كل المدن والأرياف وفي كل المناسبات والاعياد العامة منها والخاصة ولدي كل الطبقات والفئات ؟ .
فبعد تحويل شعار "الثقافة للجميع " الي شعار "نفس الثقافة للجميع "، يبدُو اننا اليوم انتقلنا الي شعار" نفس الضحالة للجميع" .
ومن جهة أخرى، نعيش ظروفا سياسية دولية مُحبطة تزامنت مع تنامي الفضائيات الوهابية فتراجع مستوى التسامح الي درجة أصبح معها يستحيل ترويج أغنيات كانت في بداية القرن تعتبر "عادية" وأصبح من الصعب علي اي مغني ان يُجاهر بأفكاره اذا كانت ضد القطيع .
فالظروف الدولية والسياسات الثقافية المُتعاقبة هي التي "ولدت" هذه الكليبات والتي وجدت جُمهور جاهزا ينتظرها مما يؤكد ان ما يستحق التحليل هو تنميط الاستهلاك الثقافي و"تشليك" الثقافة (بمفهومها الإبداعي) وتحويلها الي علف يُقدم في أوقات مضبوطة للبهائم لتستهلكه بمقادير معلومة.
يا سي خميس، انت تتحدث عن أغنية واحدة موجودة علي الانترنات وانا احدثك عن اذاعات وتلفزات لا تكتفي ببث التفاهات بل ترفع أحيانا الي مستوى النجوم بعض من ملئت أسمائهم صفحات الجرائم .

3. أين التسامح ؟ واين الموضوعية ؟

سيدي لعله من حقكم استعمال النعوت التي تريدون واطلاق الاحكام الذاتية فيما يتعلق بالنقد الفني اما وقد دخلتم مجال نقد الأفكار فالأمر مختلف بعض الشيء .
فانا، بخلافكم، افهم دوافع هذا الشاب الذي اصطدم بمؤسسات تبث دعاية ركيكة وخطابا ممجوجا وانا افهم انه يرفض التاريخ الرسمي المُدرس في المعاهد والكليات زانه يتوهم ان وراء كل شيء "مؤامرة " لانه يعرف ان الجمعيات والمجالات الثقافية "مُخترقة" ومُوظفة لصالح الدعاية الرسمية فهذا الشاب، ابن العقدين الماضيين، رضع منذ الحضانة، نفس الاناشيد والمناشدات فقام برد فعل من جنس الفعل المُسلط عليه من حيث درجة السطحية والسذاجة والعنف والانقطاع عن العصر وقيمه. فهل كنتم تأملون استواء الظل والعود أعوج ؟.
سيدي لستُم في حاجة للاستنجاد بمبادئ المونتاج والتذكير بخبرتكم الاربعينية لفضح ضحالة هذا الكليب ولا افهم تحقيركم لهذا الشاب لصغر سنه ( 24 سنة ) وان ما ذكرتموه عن افتقاد هذا الشاب الي "التجربة الحياتية والمعرفية" تهمة مضحكة في عالم الفن تعكس تحاملا يظهر خاصة من خلال :
• الشتم " فهو ... أجهل من حذائه"
• واعتباركم كل نقد " تعدي على الوطن والمواطنة" وخاصة نقده للعلم والنشيد الرسمي ( "أليس عدم الاعتراف براية البلاد وبنشيدها الوطني تعدي صارخ وعلني على تونس ومواطنيها ومؤسسات الجمهورية؟" ). فانتم تختمون المقال بإعادة صياغة التهمة في شكل تسائل بعد ان كانت في المقال تهمة قائمة الذات كاملة القرائن " (...فادا كان تعديه على شخصيات عمومية أمرا قابلا للنقاش، أليس استنقاصه من النشيد الوطني ورفضه الاعتراف بالعلم التونسي موقف لا علاقة له بالفن، ناهيك عن حرية الرأي والتعبير؟").



4. هل ان في نقد العلم الوطني "تعدي على الوطن والمواطنة"؟
صحيح ان إهانة العلم او النشيد الرسمي أو اي رمز وطني آخر أمر مرفوض (و يقع تحت طائلة القانون) ولكن إبداء الراي في الرموز الوطنية (مدي جمالية العلم او النشيد او مدى تعبير كل منهما عما هو تونسي وأساسي...) ، فهذا أمر مشروع بل هو من صُلب النقاش السياسي/الفني ولقد سبق للشاعر اولاد احمد ان انتقد النشيد الرسمي ( لانه يحتفل بالموت اكثر مما يحتفل بالحياة ) اما فيما يتعلق بالعلم فأحيلكم علي :
• نقاشات الكنديين قبل تغيير علمهم :
• تأكيد ميشال بلاتيني انه كان ولا يزال يرفض انشاد النشيد الرسمي الفرنسي لأنه " عنيف " وقد سبق له، فيما يتعلق بالتصفير ضد النشيد الرسمي الفرنسي، ان اعتبر الامر عاديا.
• وقد كان عزمي بشارة يرفض، ومن داخل الكنيسة، تحية العلم ويرفض النشيد الرسمي ولا يقف عند سماعه بل كان يرفض الدولة الإسرائيلية وخريطتها ودستورها دون ان يُحاكم من اجل ذلك.
• بعض الانتقادات الرسمية لهذا العلم من قيل نواب تجمعيبن وذلك ابان مناقشة الأمر المتعلق به في فيفري 1999 ( موقع مجلس النواب).
فالتحدي الذي تطرحه هذه الأغنية هو انها تستعمل نفس الميكانزمات السلفية للدعوة الي الرجوع الي "ماضي تعتبره أفضل ما كان وما يمكن ان يكون" والأغنية بذلك تعيد طرح السؤال التالي : كيف ولماذا انجبت حقبة الاستقلال ومؤسساته التعليمية شبابا يتباهي بقطيعته مع "هنا والآن " .
فالعلم الوطني مُقدس وككل مٌقدس فهو قابل للنقد بل لعله اكثر الرموز الوطنية حاجة الي النقد.فهذا العلم ، كان تاريخيا علم ملكي وقد أبقى عليه الاستعمار الفرنسي لتحالفه مع العرش الحسيني، قبيل احتلال الجزائر ( 1830 ) ولقد نسيت الجمهورية "الصُورية" التي أعلنها بورقيبة يوم 25 جويلية 1957 تحيينه وتزيينه بألوان ورموز وقيم الجمهورية فظل هذا العلم الرمز الوطني الوحيد الذي يعُود الي القرن الثامن عشر ( 1831 ) وهو العلم العربي الوحيد الذي يُذكر بقيم وحقب تاريخية مُختلفة ومتناقضة .
5. لا لسياسة المكيالين وخلط الادوار
لماذا حين تدافعون عن مشاهد الحب في السينما تحتجون بكون الإعمال الفنية لها أخلاقها ومعاييرها ولا يجب إخضاعها لذوق العامة ومرجعيات الساسة ومنطوق القوانين اما حين تقاضون أغنية راب، فيُصبح رأيكم دفاعًا عن الرموز الوطنية .
سيدي ماذا سيكون موقفكم اذا حدثت محاكمة مُغني بمُقتضي القوانين الزجرية التي تستنجدون بها، لانه روج كليب يدعو الي أفكار تحررية او غني أغاني جريئة أخلاقيا ( مثل " ما نحبوش يصلي نحبو يسكر ويغني ") أو سياسيا ؟ فهل تقبلون بتدخل القانون والقضاء والإدارة ؟
انا اعتقد ان الأغنية تظل مجرد أغنية ولن تقلب الأنظمة ولن تحدث ثورة ولن تغير التاريخ وكما دافعنا عن "أنا يوسف" يجب الدفاع عن حق اي كان في ترويج ما يُريد .
فالتاريخ هو الذي يعطي لكل ذي حق حقه والمهم اليوم هو ان يلعب كل لاعب دوره الحقيقي فتمارس الدولة دورها والناقد دوره والمغني دوره والمستهلك دوره والجمعيات والنقابات دورها وكفانا خلطا للأدوار وكفانا دفاعا عن الوطن والمكاسب والحداثة بآليات القمع وفصُول المنع .
6. من المستفيد ؟
لو كنتُ عاطلا ضائعا ابحث عن الشهرة والمال وعن قضية، لذهبتُ الي ابعد مما فعل هذا الشاب وتركت لكم مهمة الدعاية لي مُتمنيا محاكمتي او سجني .
ان "مُحاكمة" شاب من أجل أغنية، ومهما كان مضمُونها، تعد فضيحة ثقافية وسابقة خطيرة واذا كانت الأغنية سخيفة، فالمُحاكمة أكثر سخافة وهي في نهاية التحليل، دعاية مجانية قد تحول هذا الشاب الي بطل مظلوم وتجعله ضحية وهو ما سيدعمُ أطرُوحاته التي تقوم علي فرضية "المؤامرة".
ان الشباب التونسي لا يكاد يجد في الانترنات الا دعاية وحيدة لمضامين رجعية يُروج لها شقان الأول يمدحُ والثاني يشتمُ .
ان الكليب الذي قمتم بمحاكمته يطرح علي نفس الاسئلة التي تتبادر الي ذهني عند مشاهدة فيديوهات رجم النساء وقطع الرؤوس البشرية في الساحات العامة .
• هل ان نشرها يزيد في إدانتها ام يجعلها "عادية"؟
• هل ان شتمها سيجعل المؤمنين بها يخجلون ويعتذرُون ؟
• أليس في مثل هذه المحاكمات دعاية مجانية للأقلية المُتطرفة ؟ أليس في ذلك مُضاعفة لخوف الأغلبية الصامتة من "الغول الأصولي" وتشجيع لها علي ترديد " شد مُشومك لا يجيك ما أشوم" ؟
اعتقد ان من واجب المدافعين عن الحرية ان يُنتجوا ويُبدعوا ويكتبوا عن الحرية والمُتعة والجمال والحياة والحب وعن المستقبل ولا يلتفتوا الي معارك هامشية لا تخدم الا الاستبداد والوضع القائم . ان آخر قرص لانور براهم و آخر كتاب لعياض بن عاشور أكثر جدارة بالتقديم والنقد من اي كليب رجعي .
7. لدي حلم
لا أنتظر من السياسيين اي دعوة للتسامح، فدورهم يقتضي البحث عن المُزايدات وخلق المعارك الوهمية والركض وراء الشعبية الآنية ..الخ، ولكني أعتقد ان الصحفيين يمكنهم ليس فقط ان يُساهموا في فرض قيم التسامح بل ان يُوسعوا دوما من هامش الحرية الذي تتيحه الظروف السياسية والأعراف الاجتماعية والقوانين الزجرية .
فيوم يدافع الصحفي اليساري عن حق بعض التونسيين في ممارسة "رجعيتهم" التي لا تضر بالنظام العام ( مثل لبس الحجاب وإبداء آرائهم السياسية في كل المواضيع من مجلة الأحوال الشخصية الي العلم ...) ويوم يُدافع الصحفي الإسلامي عن قيم المواطنة وعن حق التونسي في التعبير عن أفكاره وممارستها في إطار القانون وان كانت ضد الفهم الشائع للدين ( من افطار رمضان في الفضاءات العامة الي زواج التونسية بمن تشاء وانتهاء بحرية الجميع في حياتهم الخاصة....)، يومها يُمكن ان أكون فخورا بالانتماء لهذا الوطن .
Lire la suite ...!

2011/01/22

عزل الرؤساء المديرين العاميين المتواطئين مع النظام السابق


بعد إيقاف الأعوان والموظفين لعدد من الرؤساء المديرين العاميين عن العمل ( بلغ الي حد يوم 22 جانفي 2011 ، قرابة عشرة مسؤولين ) يطرح البعض السؤال التالي : هل يمكن ونحن نطالب بدولة القانون والمؤسسات بان نقبل بمثل هذه الممارسات غير القانونينة ؟ كيف يعزل الأعوان مسؤولا مُعينا بأمر ؟ اليس في الأفق خطر فوضي تهدد الأخضر واليابس ؟
قبل الإجابة علي الأسئلة اؤكد ما يلي
• لا يُمكن قانونا للأعوان اختيار او عزل او محاسبة اي مسؤول
• لا يُمكن سياسيا وأخلاقيا منح الجماهير الغاضبة سلطة الحكم على الأشخاص خارج إطار القانون
• ولا يمكن عزل من هو معين بامر الا بأمر
ولكن لا بد من التذكير بما يلي :
1. ان الظروف التي تعيشها البلاد ظروفا استثنائية وخطيرة وقد وصفها الرئيس المؤقت بالثورة
2. ان هذه الظروف الاستثنائية تأتي بعد أكثر من نصف قرن من القمع وعقدين من الفساد الذي نخر كل أجهزة الدولة
3. ان هذه الظروف تتطلب قرارات سريعة هدفها الوحيد حماية المصلحة العامة وهي قرارات لم تتخذ بعد فيما يتعلق بالمؤسسات العمومية الكبري بحيث اننا نعيش منذ 14 جانفي بخطاب الثورة ولكن بمسؤوليين وبعضهم أعضاء بارزين في عصابة النهب والقهر التي قامت الثورة ضدها وبعضهم الآخر متواطئ بالفعل او بالصمت
4. ان درجة الطغيان والفساد وخرق القوانين التي مارسها ولا يزال يمارسها بعض هؤلاء المسؤولين تجعل من غير المقبول تمكينهم من وقت إضافي لمواصلة مهامهم او لإخفاء بعض الوثائق.
5. ان بعض المسؤولين كان يتلقى تعليماته من الطرابلسية مباشرة وكان يتباهي بذلك وبعضهم ارتكب جرائم تحدثت عنها الصحافة الأجنبية بالطول والعرض.
6. ان درجة العنف المادي والمعنوي التي مارسها بعضهم ضد الأعوان الشرفاء وان حجم الدمار النفساني الذي تركوه لا يحتمل تأجيل قرار "تعليق نشاطهم" ولو ليوم واحد وذلك لما فيه مصلحة المؤسسة ومن أجل تخفيف التوتر وإعادة التركيز على العمل في انتظار نتائج التحقيق فهل يعقل ان يواصل السجين بعد تحرره العيش مع من عذبه ؟ ان بعض هؤلاء متهم بأنه وراء تحطيم أشخاص وعائلات وملاحقتهم حتى في حياتهم الخاصة .
7. ان ما طالب به الأعوان هو مجرد إجراء تحفظي يتمثل في تعليق نشاط بعض المسؤولين ممن يشكل مُجرد تواجدهم بالمؤسسة استفزازا للحس الوطني ولضحاياهم ولم يطلب احد من هؤلاء المسؤولين وبعضهم له ربع قرن في المسؤوليات دون اي محاسبة، ان يقدموا اعتذارات او اعترافات ولم يحقق احد معهم ولم يواجههم احد بأي حجة ولم يوجه لهم احد تهمة بعينها وجل هؤلاء لم يتواضعوا قط ليجيبوا على تساؤلات أعوانهم فكما حكم بن علي دون ان يستمع لأحد يحكم بعض هؤلاء منذ سنوات دون ان يجتمعوا قط بأعوانهم.
8. ان القوانين في نهاية التحليل هي مجرد أداة لخدمة غايات سامية وليست مُجرد نصوص جافة تطبق بسذاجة حتى وان أدي تطبيقها الي خلاف ما أعدت له .ان روح القانون اهم من نصه الحرفي والمصلحة العامة تقتضي أحيانا تأويل أو تعليق أو خرق القوانين من اجل فرض روحها وقيمها
9. شخصيا لم اسمع هؤلاء المُتحمسين لاحترام القوانين يتكلمون حين كان هؤلاء المسؤولين يدوسونها ويوزعون المال العام يمينا وشمالا ويرتكبون المخالفات المفضوحة وحين كانت الشعب المهنية ترتع في المؤسسات وتشارك في القرارات وتنشر الرعب والتقارير البوليسية وحين كان الطرابلسية يقررون كل شيء داخل بعض المؤسسات العمومية وكانوا يزورون هؤلاء المسؤولين في مكاتبهم بكل وقاحة.
10. ان بن علي لم تقع الإطاحة به بفضل انتخابات ديمقراطية ولا بفضل قوانينه اللادستورية بل تمت الإطاحة به بإضرابات اغلبها كان غير قانوني وبفضل نشر اخبار يعاقب عليها القانون التونسي الزجري وبالانتظام في جمعيات محضُورة وباحتلال الشوارع وتحدي البوليس وبشتم رئيس في حالة مباشرة واتهامه بالسرقة والفساد وبالعصيان المدني فاين هؤلاء المتحمسين للمؤسسات حين كتبت مناشدات خرق الدستور ؟.
11. ان السذاجة السياسية هي التي قضت سابقا على البلاد وان الاحترام الغبي لمؤسسات صورية هو الذي حطم المؤسسات وسلبها دورها فلا بد ان نتذكر ان كل القوانين والدساتير والمؤسسات يجب أن تكون في خدمة الشعب ولحماية المصلحة العامة ويجب خرقها كلما اقتضت الضرورة القصوى ذلك .
12. ان قائمة المخلوعين تعطي فكرة واضحة عن مدى نضج الأعوان وتؤكد اقتصارهم على حالات قليلة ومعزولة متورطة في الفساد واننا لسنا امام محاكمات شخصية او محاكم شعبية بل امام عملية واعية ومنظمة تمثل امتداد لحركة الشارع الذي رفض بن علي ورفض حزبه ثم رفض رموزه في الحكومة والآن يواصل تتبع رموزه في المؤسسات ذلك للحد من الاضرار واسترجاع ما يمكن إرجاعه من المال العام وليس من اجل التشفي او الانتقام .
13. ان رئيسا مديرا عاما يجاهر بالفساد ويضع كل من يخالفه في الفريجيدار ولا يسمي في الوظائف الا الفاسدين ويتباهي ببيع المؤسسة للطرابلسية لا يمكن ان يبق ولو يوما واحدا.
14. ان من وقع إبعادهم عن مؤسساتهم لم يمارسوا قط صلاحياتهم في اطار القانون بل كانوا فوق القانون وبعضهم ضده وقد كان بعضهم يتصرف بالنيابة وبنفس غطرسة وجشع وعنجهية المافيا الطرابلسية وهم قلة قليلة تحوم حولهم شبهات حول ارتباطهم بالعائلات الطرابلسية وحول ارتكابهم لعدة تجاوزات
15. وقع تعيينهم خارج منطق " القانون والمؤسسات" بل اعتمادا على مفهوم الولاء والخدمات
16. انهم لم يحترموا قط لا القانون ولا المؤسسات فارتكبوا جرائم وحطموا مؤسسات وقهروا العباد ولم يعرف عن احدهم احترامه للقانون او المؤسسات بل ان كل منهم كان بن علي في منصبه يعزل ويسمي حسب اهوائه وشهواته ويتصرف في المال العام كما لو كان ماله ويتعمد خرق كل القوانين والأعراف وقهر الاحرار لمجرد اظهار قوة زائفة وخدمة لصوص جشعة .
ان الرئيس المؤقت ووزيره الاول اعترف بأننا نعيش "ثورة" وقد اعترف الوزير الاول الحالي صراحة يوم 21 جانفي بضرورة تغيير بعض الرؤساء المديرين العاميين المحسوبين على الرئيس السابق ووعد بالإسراع بتغييرهم ويبدو بانه قبل بموقف الأعوان من بعض المسؤولين اذ لم يعلق على مبدأ عزلهم بل اكتفى بالتأسف على التجاوزات التي صاحبت بعض عمليات الإقالة
فكما ستضطر السلطة السياسية المؤقة وباسم المصلحة العامة الي خرق الدستور (بتمديد آجال وشروط الترشح للانتخابات الرئاسية ) فان بعض القوانين الأخرى لا يمكن احترام نصوصها حرفيا .
ففي لحظة تاريخية استثنائية تتميز بمشاهد سريالية عديدة وبخروقات دستورية وقانونية واضحة من الغباء التشبث الحرفي بالنصوص فالمصلحة العامة هي الأهم
واذكر من يتشدقون بالتمسك بالنصوص القانونية اننا نفضل روح القانون والمصلحة العامة وتقدير الظرف وبذلك فقط يمكن فهم ما يحدث اليوم من تونس فنحن لدينا رئيس مؤقت لا شرعية له ورئيس ثاني اكبر مؤسسة دستورية مطلوب لدى العدالة وفي تونس اليوم وفي ظل حضر التجول يتظاهر المواطنون ليلا وتبث التلفزة الرسمية مُظاهرات لأعوان الأمن وينشر عضو حكومة على التوتير حينيا قرارات مجلس وزاري ولدينا رئيس حكومة يبارك ثورة اطلقت حكومته عليها النار فتساقط الشهداء بالعشرات بل اننا سمعنا الحكومة تطلب من الشعب حماية نفسه من قوات الأمن اليس هذا المشهد السريالي ( وقد شاهدنا المواطنين يوقفون اعوان امن ويتثبتون من من هوية قوات الأمن ) خارج عن اي اطار قانوني اومنطقي فلماذا لا يتوقف البعض عند ويل للمصلين ؟
كفى ثرثرة قانونية فالقوانين في خدمة المبادئ والقيم ولا بد من احترامها من قبل الدولة اولا والا فسلاح الضحايا خرقها
وعوض التمسك بشكليات تافهة تجاوزتها الثورة التونسية بشكل حضاري لا بد من التفكير في اصلاح جذري لمنظومة التصرف في المؤسسات العمومية وذلك خاصة من خلال :
• فصل أجهزة التصرف عن أجهزة المراقبة داخل المؤسسات
• فتحها على الإعلام المُختص واخضاعها للمراقبة والمحاسبة
• مراجعة تأجير وشروط تعيين الرؤساء المديرين العامين وإعطائهم أكثر صلاحيات
• رد الاعتبار لكل الرؤساء المديرين العامين الشرفاء الذين تعرضوا الي عقوبات شنيعة لأنهم رفضوا خدمة المافيا
• ايقاف العمل بأوامر الابقاء بحالة مباشرة بعد بلوغ السن القانونية التي شكلت أكبر خرق سياسي لمنظومة العمل داخل المؤسسات العمومية
Lire la suite ...!

2011/01/07

بطولة علجية بن بوعزيز


بطولة علجية بن بوعزيز
بوعزيز بن نصر الحناشي ( زعيم قبائل الحنانشة وقائد لعدة ثورات شعبية ضد البايات في بداية الحكم الحسيني وقد اعدم بطريقة وحشية سنة 1739 قي ساحة القصبة بعد ان ".... تُرك نهبة للعسكر الذين انقضوا عليه وبأيدي كل واحد منهم يطغان وطفقوا بوحشية لا يصدقها عقل يقطعونه قطعا قطعا ويشوون بعضها ويأكلونها وقد ذهب بهم الظن أنهم بذلك يعبرون عن حقدهم لأعداء السلطان " ص 129.
"...ان الخطر الذي كان يمثله بوعزيز كان ملحا الي درجة ان حسينا، باي تونس، وكلبان، باي قسنطينة، تحالفا ضده سنة 1724 والحقا به هزيمة تداركتها بصورة جزئية وشجاعة ابنته علجية، بهجمة مضادة وكانت امازونة الجبال بحق " ص 127
"...ما كان من علجية ابنة بوعزيز وقد أحزنها ما أصاب والدها من بأس وقنوط الا ان أمرت، كما كتب بوسينال، بجلب أحسن ثيابها ولما لبستها ركبت جوادها ونادت النساء والبنات من قريباتها او صديقاتها فركبن ايضا جيادهن ثم خطبت فيهن محرضة قائلة : اذا كان هؤلاء الرجال تنقصهم الشجاعة لمواجهة الترك الذين سيبادرون باغتصابنا أمام أعينهم فلتخرج نحن النساء لنبيع حياتنا بالثمن الغالي ثم شقت عن صدرها وابرزته للرجال وصاحت فيهم : يا ابناء نصر انتم الدين سترضعون هذا اللبن ما عليكم الا الالتحاق بي فاثارت بطولة هذه الفتاة النخوة في نفوس العربان فما كان منهم الا ان حملوا علي الترك بعنف حتي هزموا العسكر وظفروا بنصف الغنائم وأسروا الخليفة وسلبوا الترك كلهم " ص110
من كتاب "حسين بن علي " تاليف مختار باي ترجمة البشير بن سلامة دار الأطلس للنشر 2009. تونس.
Lire la suite ...!

2011/01/04

تكلم يا تونس




تكلم يا تونس
شعر خالد الوغلاني

ولادك يا تونس عينيك نجومك وقمر لياليك
الحبّ اللي تربّى في عزّك وحرقتو النار اللي فيك
زعمة حْرُمْ عليهم خبزك ولاّ الخبز حرم عليك
ولاّ فمة شكون يلزّك تحرق أكبادك بيديك
تكلّم يا تونس يهديك
***
تكلّم واحكيلي على شبابك الخير اللي معطّل في بابك
العين اللي تتمنّى تشوفك بعيدة على مدافع حجّابك
زعمة اللي معذبهم، خوفك ولاّ الخوف سبب عذابك
ولاّ اللي فهمو ظروفك زادو م الظلم اللي فيك
تكلّم يا تونس يهديك
ولادك يا تونس وبناتك الورد اللي مفتح في ذاتك
العزّ اللي ما يطيق خيانة ولا يرضى بذليل سكاتك
النخوة اللي تخلّي الجبّانة أقرب من خير قصوراتك
الروح اللي كي تشوف إهانة تعفس ع الدنيا وتفديك
تكلّم يا تونس يهديك
تكلّم ما تخلّيش سكوتك يقضي على حريّة صوتك
علاش ترضى يخليو حياتك تصويرة تدل على موتك
علاش هكة الحريّة نساتك رهينة في تركينة قوتك
تبكي في وجه وليداتك وتضحك للي ضحكو عليك
تكلّم يا تونس يهديك
Lire la suite ...!