2011/03/11

ان عدتم عدنا شعار الثورة التونسية ورمزية القصبة



ان عُــــدتُـم عُـــدنا
لا يزال عدد كبير من السِياسِيين والمُعلقين يتعَجبُون من غياب القادة والزعماء والتأطير ....الخ .
ويبدو أنهُم جميعا يفكرون بنفس مُنطلقات بن علي اي التفكير في الدور المركزي للسلطة السياسية في إحداث او مواصلة او تحقيق الثورة وكل ما يعنيه ذلك من ضرورة تأطير الجماهير ( أي توجيهها ) بإنشاء واستعمال الهياكل والقادة وحزمة الأدوات النظرية والتنفيذية لتمارس الدولة مراقبتها على المجتمع المدني وليمارسا معا مراقبتهما على المجتمع بأسره.
وأكاد أجزم بأن كل الحداثة العربية قامت على مثل هذه المُقاربة المُعتمدة على محورية جهاز الدولة وتوابعه سواء كانت مقاربة فكرية أو عملية .
وللتذكير فان جل التجارب العملية قامت على سلطة ( وسطوة ) المؤسسة العسكرية سواء تعلق الأمر بمصر محمد على أو بتونس حسين باي الثاني .
ما شعرتُ به في الشارع التونسي انه لا وجود لأي انزعاج بسبب ما يعتبره البعض "غياب" للزعامات....ومن اللافت للانتباه ان جل من كانوا يستغربون غياب الزعامات الثورة كانوا يحذرون من "الفراغات" ( السياسية والدستورية ) ويطلبون صراحة او ضمنيا "هدنة ثورية" حتى تُولد وتقوى الأحزاب والزعامات والهياكل الجديدة "تأطير الشباب" وترويض المجتمع " المُنفلت" .
والحال ان شباب تونس أصبح فعليا يُمارس دورًا رقابيّا هاما ويُفكر بوعي عملي في خلق ومراقبة السلطات المُضادة وقد شرع فعليا في تنظيم صفوفه سواء افتراضيا او في الواقع .
وهذا الدور الرقابي الجديد، لا يحتاج بطبعه الي نجوم وزعماء وفضاءات وهياكل كلاسيكية..الخ.
وليس من قبيل الصُدفة انه، حتى بعد 14 جانفي 2011 ورغم نهم التلفازات الإخبارية وحاجتها الي صنع نجوم، فإن اعتصامي القصبة لم يتركا في الأذهان صورة شخص او زعيم او حزب بقدر ما تركا شعار " ان عُــدتم عُــدنا " وهو في سياق الثورة التونسية يُعبر عن مفهوم جديد يؤسس لفكر مستقبلي .
انه شعار هام ولد في القصبة ولكنه يعبر عن كل الجهات والمغيبين وهو يُهدد الجميع حكومة ومُعارضة وإعلام وأشباه مثقفين....الخ بالعودة لا الي القصبة بل الي نفس الأشكال والأساليب التي ابتدعتها الثورة التونسية
ولعل أفضل ما في هذا الشعار الشرطي أن الشرط غير مُحدد وان جواب الشرط من جنسه وكأنه مسبوق بالمثل التونسي «ميمونة تعرف ربي وربي يعرف ميمونة" بل ان عموميته تجعله قابل للتطور والتأقلم بل والخلود.
انه شعار يشكل قطيعة جذرية مع فكر كان طيلة قرون يخلط بين السلطة والدولة ويفترض ان السلطة السياسية هي مفتاح "النهضة" و"الحداثة" وانها ستلدُ المؤسسات والقيم الديمقراطية والمواطنة.. وأنها بعد ان تصنع لنا كل ذلك ستكون الحارسة الأمينة للمجتمع المدني الذي ستخلقُه لكي يُزاحِمها في السُلطة ويراقبها...
يبدو ان مثل هذه المقولات سقطت مع بن علي ونظامه وقد تبين اليوم ان شباب لا يعرف بعض المثقفين من اين وكيف ولماذا خرج ؟، يُريدُ أن يُمارس "مواطنة هجُومية" ضد الجميع : ضد الحكومة والإدارة والمعارضة والمثقفين والصحافة "والمخزن" والجمعيات ....فالجميع ، من زاوية هذا الشعار، في حالة " سراح شرطي".
ولعل أجمل مُفارقة في هذا السياق، ان "تعليق" اعتصام القصبة ومُنعرج الثورة الشبابية التونسية تما تحت عباءة شيخين تجاوزا الثمانين سنة من العمر.
ولعل ذلك جزء من الدرس التونسي الذي لم يفهمه الكثيرون، فالثورة تناضل من اجل قيم ومفاهيم مُجردة وهي ثورة "عقلانية" ورصينة وأصيلة ترفض مُمارسة السلطة السياسية وتكره الإحكام المسبقة ( والايديولوجيا ) والزعامات وتطالب ببرامج واضحة وسياسات صادقة وبشفافية مُطلقة وبرقابة دائمة وشاملة وحاسمة.
من الداخلية الي القصبة
مباشرة بعد وزارة الداخلية ( رمز النقمة الشعبية على المؤسسات الحديثة للقمع ) انتقل الغضب الشعبي إلي ساحة مثقلة بالرموز والتاريخ.
فبخلاف الداخلية وشارع الحبيب بورقيبة وقصر قرطاج ورموز ما بعد 1956، فان القصبة هي رمز الدولة المركزية الحديثة في تونس ، وقد شكلت ساحتها طيلة عقود "وزارة داخلية مفتوحة" وكانت مسرحا يأتم معنى كلمة مسرح، للعروض العُمومية لجرائم الدولة المخزنية/العسكرية حيث كانت السلطة تتفنن في ممارسة أبشع جرائم التنكيل والتعذيب والتقطيع والشواء والسحل والعبث بأجساد المعارضين والثوار وقطع أطرافهم ...ومن بينهم أبطال ثورة الحنانشة ( 1739) وزعيمهم بوعزيز بن نصر الحناشي وعدد من قادة ثورة علي بن غذاهم ( 1864 ) .
ولئن عرفت القصبة عُروضا لأكل لحُوم المُعارضين أحياء والتنكيل بهم فإنها اشتهرت بطقوس سياسية شبه رسمية تتمثل في تعليق جثث المعارضين بها لعدة أيام او عرض رؤوسهم بالنسبة لمن قتل بعيدا عن الحاضرة ولعل من أشهر تلك الرؤوس "القصبوية" رأس حسين باي مؤسس الدولة الحسينية ( 1705-1957 ) الذي عرض بها سنة 1740 بعد أن قتله حزب الباشية ( التابع لابن أخيه علي باشا ) في القيروان.
فالقصبة كادت ان تختص في التفنن في الإخراج الدعائي للجرائم السياسية الرسمية حتى تبث الخوف والرعب في الرعية وحتى يكون مُجرد اسم القصبة عبرة لمن يعتبر وحلما مزعجا يُولد مع كل مولود تونسي فالقصبة وبخلاف ساحات أخرى مثل ساحة باردو والتي اختصت بالإعدامات العمومية "العادية"المُتعلقة بقضايا الحق العام بمختلف أشكال تنفيذها، كانت أكثر من أسطورة حية ولا ادري لماذا غفل عنها السينمائيون حتى أتاهم حديث المعتصمين فانتبهوا الي بعض عمقها.
لقد تذكرتُ كل ما دونه ابن ابي ضياف وغيره عن ساحة القصبة واختلطت المشاهد المتناقضة في ذهني وانا أتابع شريطا سرياليا بتركيب موازي يمزج بين مشاهد الماضي الفظيع ومشاهد الرقص والأغاني والقبلات والإبتسامات والفتيات ...لقد اختلط الصراخ والبكاء في أذني بأغاني الفرح وبنشيد الاعتصام وامتزج قهر الماضي بغصة الفرحة ....
وكأن التاريخ انتقم لنفسه وكأن القصبة انتفضت لشهدائها ( وكان جلهم من الجهات ) فأحييتهم ثوارًا يعشقون الحياة والحرية وكأن القصبة هي التي اعدمت دولة القمع والبطش والاعتباطية وكأنها هي التي استولت على سلاح الخوف، لأول مرة في تاريخ تونس، وحولته ضد الماسكين بالسلطة السياسية.
فليس صدفة أن أكبر ثورة في التاريخ المعاصر احتضنتها ساحة غارقة في الرمزية السياسية وأرجو وان تحتضن متحفا لذاكرة المكان ولرموز الثورة.
سفيان الرقيقي
11 مارس 2011

Aucun commentaire: