« الجنة الآن » : مُتْعة السينما
وجُرأة الأسئلة
فيفري 2006
سفيان تونس
وجُرأة الأسئلة
فيفري 2006
سفيان تونس
« الجنة الآن » (( PARADISE NOW لـ"هاني أبو أسعد" شريط مُمْتِع ومُثِير ومُؤثر ومُتقلب ومُتميّز...شريط مُوغِل في « واقعية » ( إيرانية ) جميلة تجمَعُ بين قوة المشاعر وصِدق الإحساس ورشاقة المُقاربة و« بسَاطة » الأسلُوب ( السَهْل المُمْتنع ) وبلاغة التصوير ( التوثيقي ) وبراعة التشويق (الأمريكي) وجمال السرد ودقة الأداء ...الخ، ولعل أفضل ما في هذه « الجنة » : فصاحة « الخطاب » الإنساني وسُموه.
فالشريط يتعامل بتواضع واحترام مع كل من السينما ( ولغتها ) والموضوع (وشخصياته) والجمهور( وخلفياته) والعصر (وقيمه) وهو ما جعله ثرٍيًّا دون إجابات وجَسُورًا دون استفزازات ومُجدّداً دون مُزايدات، فنجحَ، رغم مَوضُوعِه المُفَخّخ، في تجنّبِ التنميط والتسطيح والحَشو والتلاعب والأحكام والدعاية ....وغير ذلك مما يتخفى، عادة، وراء القضية (الفلسطينية) فيُحَوّلُها ضجيجًا بلا روح وتكرارًا بلا معنى.
1. السينما موسيقى داخلية
لقد ذهب هذا الشريط « الباطني » و« المينيمالي » في تجرّدِه من كل تزويق وفي « لُزُومِه ما لا يلزم » إلى حد اللإستغْناء عن المُوسيقى دون ان يُحدث ذلك أي فراغ أو ضعف لأن الصَمْت كان خيارًا أساسيا في الشريط ( وفي شخصية سَعيد ) فكان وسيلة فذة للتعبير عمَّا لا يُمكن أن تُعبر عنه لا الكلمات ولا الأصوات ولا حتى الصُور أحيانا ( المشهد الأخير ) .
ولذلك كان الحُضور الوحيد للموسيقى (في بداية الشريط) قصيرًا وبالصورة والتعليق وهو ما أفقدها وظائفها « التصويرية » لتتحول الى مُجرد « إكسسوار » بأبعاد درامية ورمزية (بداية علاقة سعيد بسُهى بالتوازي مع بداية اختلافه مع خالد ) وتعلة للإثارة حوار نظري ( حول تنوع مفاهيم الأخلاق وتعدد زوايا الحقيقة ).
ان قدرة هذا الشريط على التعبير عن « المناخات » وتصوير الشخصيات ومواكبة التحولات والغوص في الأعماق وشد المتفرج، تغنيه عن أي تشويش أو ثرثرة لأن الشريط اختار الإصغاء الى براكين الألم الصامت.
2. فلسطين قضية « إنسانية »
يتجاسر هذا الشريط على إحدى أعقد القضايا الدولية ( الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ) في تقاطعها مع إحدى أهم الحجج الدعائية لما يُعرفُ بالحرب على الإرهاب :العمليات الانتحارية.
ولكن الشريط يُسَلِّطُ علي هذه العمليات أضواء « جديدة » تصدِم « أصحاب القضية » قبل « أعدائِها » لأنها تكشف، بجرأة ( وبلطف وحرفية)، العُمق الإنساني المأساوي لما يُسَمّي بالانتحاريين.
فبعيدًا عن الكليشيهات المَانويّة (manichéistes) المُتداولة عن فلسطين وعن المُقاومة، يكشف الشريط ان الانتحاريين ليسُوا أبْطالا أسطوريين ( كما تُروج عنهم دعايتهم حتى صلب الشريط ) ولا مُتدينين مُتعصبين أو مُتطرفين مُتعطشين للدماء، فمن خلال عدة مشاهد مُؤثرة ( مثل مشهدي تصوير الوصية وقدوم الحافلة...وغيرهما ) يُدافع الشريط على فرضية وحيدة وبسيطة مفادها انه وراء كل انتحاري إنسان « عادي ».
وبقدر ما تبدو هذه الفرضية بديهية بقدر ما سيُدافع عنها الشريط بحماس ليُحولها الى « سلاح » مُربِك للوعي وللاحساس ومُهدم للمسلمات من خلال مواقف رهيبة وشخصيات مُزلزلة على غرار شخصية سعيد التي يتعاطف معها الجمهور رغم انها أبعد ما تكون عن البُطولة فهي لا تُثير لا الإعجاب ولا الكره.
فالجمهور الذي أحب سعيد وتضامن معه لا يتعاطف ( بالضرورة ) مع القضية أو مع شكل النضال او مع المُناضل بقدر ما يتعاطف مع الإنسان الذي بتفجير جسمه يُفجّر أسئلة خطيرة ومشاعر مُتناقضة وقضايا مُحيّرة وينتقم لطفل ( ولجيل ) مُغتصب البراءة ومسلُوب الأحلام.
3. عبثية الحياة وحكمة الموت
الدمارُ فظيع والموتُ مُقيم والفراغ مُريع والعبثُ يُعَشْعِشُ في كل زاوية بشكل مُسْتديم و المللُ يُهيمنُ على كل لحظة و الخرابُ يُدمّرُ المكان والإهانةُ تنخرُ كل المدارك وتُفْقِدُ الأشياء البسيطة ألوانها وخصائصها، فيُشربُ الشاي باردًا ويُصبح سُكّرُه بلا طعم ويفقد سعيد أي رغبة في أي شيء وينتفي لديه الإحساس باستثناء الإحساس بالقهر والعجز ...في هذه الظروف يصبح الموتُ ميلادًا وعُرْسًا وحياة.
فالشريط لا يكتفي بتوجيه رسالة سياسية ضد الاحتلال ولا يقف عند حد تفهم تحول الجسم إلى وسيلة دفاعية ضد الآلة العسكرية المُتعجرفة، وانما يذهب الى محاولة فهم بعض مفارقات الاحتلال والتي تدفع بعض الشبان ليسْلبوا أنفسَهم مَا يُبقيه الاحتلال فيهم من « حياة ».
فالشريط ركض مُؤثر( دون مُحاكمات ) لشخصيات تبحثُ عن معني وعن بعض كرامة وتسعي لإعطاء حياتها الفارغة مَضمُونًا وهو وان كان يتفهم حاجة بعض الشباب الى نفْي تُهم قديمة ( منسوبة الى آبائهم ) تتعلق بالخيانة ( سعيد ) والجبن ( خالد ) فانه يُثير حول هذا « الخيار » عدة أسئلة وعلى رأسها : « هل يتعلق الأمر فعلا باختيار » ؟
ودون إدانة أو رفض يتفهم الشريط هذه العمليات الانتحارية ويُوضح أنها ليست « فعلا » ( ليست ركضًا نحو جنة مثلا) ما بقدر ما هي « رد فعل » وفرار من عبثية الحياة المفرُوضة على صديقين عاديين يقتلان الوقت بين إصلاح سيارات قديمة وتدخين النرجيلة على مشارف مدينة ميتة وحزينة، وسيكتشف المُتفرج تدريجيا ان تلك العبثية ليست وليدة الاحتلال الإسرائيلي ( فقط ) .
فالشريط يُحطم وبشكل منهجي، كل الصُور النمطية السائدة (عن الاحتلال وعن العمليات الانتحارية) ويتجاوز التعامل الانفعالي ويرفض اختزال الموضوع في بعد واحد ( فردي أو إيديولوجي أو سياسي ) ويتجنب كل الإجابات الجاهزة والأغنيات الممجوجة لأن المعاناة الفلسطينية، أعقد مما يتوهم البعض، وتعاني أيضا من... « احتلال داخلي ».
4. انتفاضة ضد الاحتلال « الداخلي »
بقدر ما يكشف الشريط عبثية « الحياة » اليومية تحت الاحتلال بقدر ما يُهاجم « الذات » الميتة .
وللتعبير عن تداخل الإحتلالين ( الخارجي العسكري والداخلي الذهني )، كانت الأحداث (والكاميرا) تتنقل من الفضاءات الداخلية إلى الفضاءات الخارجية ومن الخاص إلى العام ( أو بالعكس ) بسلاسة وببراعة وبروح مُتفردة وبطريقة سينمائية راقية، قد يجد فيها المتفرج قراءة لصفحات من « الانتحار » لدوركايم أو إحالة إلى بعض مراجع التحليل النفسي ولكن لن يجد فيها أي توجه ( سياسي او ايديولوجي او ديني ) لتضخيم الجبل الجليدي (iceberg ) الإسرائيلي.
فسعيد له مُشكل أساسي مع... الأب وهو بسبب ذلك عاجز عن التواصل مع أمه (وعن تحطيم « الجدار » الفاصل بينهما) وعاجز عن الفعل والتفكير والإحساس بما حوله ومُنقطع عن الكلام ومُنكمش على ذاته وهو لا يفكر في مقاومة مُحتل بقدر ما يفكر في انهاء مُعاناة وتصفية حسابات .
فبالنسبة إلى سعيد ، تداخلت الأهداف ( المُعلنة والخفِية / الخاصة والعامة ) بشكل مُرْبك وتنوعت العوائق الداخلية بشكل مُحيّر وترابطت الجزئيات المُتناقضة بشكل مُدهش وتتالت الأحداث غير المُنتظرة وتطوّرت بشكل درامي تصاعدي يُنسِى المُتفرج الأحكام المُسبّقة، ليُدْمجه في عُمق الشخصية وليفْرض عليه ان يعِيش مع سعيد بتأثر وتفاعل كبيرين ليس لانه بطل يُقاوم الاحتلال بل لأنه طفل في صدام بطولي مع « الاحتلال » الداخلي .
فمنذ المشهدين الأول والثاني يُؤكد المخرج أنه يغُوص في الحياة اليومية ويُصور الزمن الفلسطيني المُتوقف والتوتر الداخلي والحوار العبثي (الذي ينتهي الى العنف) وانه يدرك خطورة الاحتلال وبشاعته، ولكنه يُصوب الكاميرا (والسُخرية السوداء) نحو « الذات » الميتة .
5. الأبوة المُدَمِّرة
لقد توقَّفَ الزمنُ كليّا بالنسبة إلى سعيد بعد فاجعة غَطّتْ عمّا سِواها من فواجع فنشأ هذا الطفل الفلسطيني الذي لم يَقتُله الحرمان ولم تُدمره المُخيمات ولم تُخرسه نيران جيش الاحتلال، حزينا ومُحطماً وكتوما بسبب ما تركه الوالد من صورة سَلبية مُكبّلة ومُتجدّدة ( في عيون الآخرين )، وهذه الصورة تُخيمُ على كل الشريط من أوله إلى آخره.
لقد عرف خالد وسعيد ظروف عيش صعبة في المخيمات وطفولة قاتمة لم تكن آلامها تقتصر على الجوع والفقر والحرمان وإهانات الاحتلال بل تتعداه الي إهانة من نوع خاص يبدو انها لا تمّحِي بمرور الأيام بل تتضخم، فلقد دخل الجيش الإسرائيلي منزل والد خالد وخيره أي الرجلين يُريد ان يحتفظ بها فقبل الإهانة عوض الموت اما والد سعيد فقد كان عميلا وتمت تصفيته عندما كان هو في سن العاشرة.
فلا وسيلة إذن للصديقين لمحو العار الأبوي بغير العملية الانتحارية التي قبل ان تكون عملية سياسية تبدو دينا عائليا بل علاجا نفسانيا وهو ما حرص المخرج على إبرازه في المشهد الوحيد الذي يتكلم فيه سعيد الكتُوم بإطناب عن نفسه وعن دوافعه وهو على « سرير » زعيم عسكري يُنصت اليه كما لو كان طبيبًا نفسانيا !.
في هذا المشهد لا يحلم سعيد ( بخلاف خالد ) بموت مُشترك مع صديقه ولا يُفكر في اغتيال « الآخرين » ( لم يتحدث عنهم الا في مناسبات قليلة حين يحتج على احتكارهم لصفة الضحية ) بل يعلن عزمه اغتيال ذاته المهانة وإيقاف موته البطيء وقتل أباه نهائيا.
فرغم نيلِه لأقصى عِقاب وغيابِه الجسدي منذ سنين طويلة، فان هذا الأب يبدو بالنسبة الى سعيد، أكثر حضورًا وأبشع من الاحتلال، فهو يُعطلُ إدراكه للزمن ويُطاردُ أحلامه ويمنعُ عنه حتى ابتسامة الوداع، انه اب مُدمّر يُطاردُ ابنه في كل مكان ويفرض عليه حالة فرار دائم ويجعله عاجزًا لا فقط عن رؤية الحقائق بل مُرتبكا في مواجتها مثلما حصل في محل التصوير (أمام أشرطة الشهداء والعملاء ) حيث صورة الأب ( الافتراضية ) تُزاحم الصُورة الدعائية لسعيد (الشهيد) فتنتصر عليها فيهرب سعيد مُرتبكا لأن والده حاضر في أحشاءه وفي ذهنه كورم سرطاني خبيث استفْحل حتى أصبح الموتُ ( الرحيم ) علاجًا وحيدًا ومُستعجلا.
6. ثلاثية الأبوة والزمن والاحتلال
ان الأبوة، وان كانت ثقيلة بسبب الاحتلال، فإنها لا تبدو دوما مُكبّلة ومُهينة ومُدمرة بسببه، اذ لها في الشريط ثلاثة نماذج (تتدرج من الشهيد الي العميل مُرورًا بمن هو في منزلة بين المنزلتين ) تُواصل الفعل في الحاضر وتتكرر في اغلب الأحيان (وان بشكل مُختلف وبتبادل للمواقع ) ولكنها ليست دوما سلبيّة.
فسعيد الذي ينتهي « انتحاري » يُواصل مِشوار البطولة ( والد سُهى ) وخالد الذي ينتهي ضعيفا ومُترددا وهاربًا من « المُواجهة»، يُواصل (وان بصفة مُختلفة) مسيرة الجُبن ( والد سعيد ) في حين تُعتبر سُهى « وريثة » المُواجهة السلمية ( والد خالد ).
ومن خلال هذه النماذج الثلاثة وتمظهراتها عبر جيلين مُختلفين، يتبين ان التطور الوحيد حَصَل مع نمُوذج الحل الواقعي اذ مَر هذا النموذج من « اللافعل » ) مُجرد المُكُوث السلبي في البيت الصغير وتحمل جرائم الاحتلال فرديا ) الى اختيار الخروجُ الى عالم الفعل العمومي من اجل ثلاثة أهداف مُتكاملة : مُهاجمة الاحتلال أخلاقيا والتحاور مع المُقاومين سلميا والإقبال على الحياة بنهم، فسُهى تمثل (منذُ أول ظهور لها تتحدى نظرات الجنود على الحواجز )، تطوير للمُواجهة اليومية « السلمية » مع الاحتلالين ( بتطعيمه ببعض كرامة وثقة ) بل وبداية تأصيل نظري لهذا الحل.
ان اثنين من الآباء الثلاثة قُتلوا ومُنذ زمان (أحدهما مات شهيدا والآخر عميلا ) ولكن ما يُؤكد عليه الشريط هو أن « المُشكل » اليوم لا علاقة له لا بالآباء ولا بالماضي ولا بطبيعة ما أقدموا عليه، بل ان المشكل هو استنساخ الماضي وتكرار نماذجه ومواصلة اعتماد معاييره ( العاطفية والسطحية ) من قبل بعض الأبناء.
فخالد وسعيد مثلا لا يعيشان ( الاحتلال ) الا من خلال قراءة انفعالية ومُتطرفة للأب ومن زاوية قراءة معينة (مُشَوِّهة ) للتاريخ وللحقائق ولعل أفضل مثال على هذه القراءة ان والد خالد مُعاق لأنه تصدى (بطريقته الخاصة) للاحتلال ولكن ابنه يُنظر اليه كما لو كان عميلا ( لانه لم يُدافع حتى الموت ) ويعتبره مصدر عار ولا يرى في واقعيته ( ضحى برجله ولم يفر) ما يجعله جدير بأي احترام، فالمفارقة ان هذا الأب هو الحي الوحيد في الشريط ولكنه الميت الوحيد بالنسبة الى الأبناء.
ويبدو ان هذا التصنيف الثنائي هو السائد لدى أبناء « الداخل » الذين تعودُوا الا يُفكروا إلا بالأسود والأبيض واعتادوا على أن البطل هو الميت وان الشجاعة هي الصدام المادي المُباشر وان المقاومة غاية ووسيلة وأن الأب لا بد أن يظل حيا وهو ما جاءت سهى لدحضه قولا وفعلا (وعقليا وعاطفيا) لكنها فشلت مع سعيد الذي كان طوال الشريط يعيشُ في الماضي وبعقده الى درجة انه لم يكن قادرا على رؤية الجانب الأنثوي في سهى فقد بدا أكثر اهتمامًا بوالدها وكان يتوهم انها مثله تستمد من الأب كل « المرجعيات » والمعنويات.
ولكن ورغم تأكيد سُهى أنها لا ترى في الماضي لا مصدر عار ( قصة تصفية والده) ولا مصدر فخر (والدها الشهيد )، فان سعيد رفض ( فكربا وعمليا ) منح الموتى تقاعداً ومضي في قتل نفسه مرتين ( بالحياة وبالانتحار ) وبشكل رسمه له المجتمع ودفعه اليه دفعًا وأعده إليه مُنذ سنوات.
فالمشكل ليس في الآباء بل في تعامل الأبناء معهم والمعركة ليست ضد الآخر ( الإسرائيلي) بقدر ما هي ضد الذات وضد عديد المُسلمات و « السجون » الاجتماعية.
7. « قتل » الأب من خلال قتل الذات
يمثل سعيد وخالد وجهان لعملة واحدة فمأساتهما واحدة وعقدة كل منهما مُتشابهة وان تنوعت الدرجات واختلفت الردود.
لكن خالد سطحي ويعيش الإحتلال وعقدة الأب بنفس الشكل فيُزايد ويتحمس وينفعل ويخطب ويُسجل وصيّة طويلة ويحكم على والده بشكل قاسي ( تمني لو اختار الدفاع الانتحاري بدل الإهانة ) ولكنه يفر ويُنهي الشريط وهو يبكي خجلا من نفسه، اما سعيد فنظرته الى الأمور أكثر نسبية فهو يعيش مُمزقا بأبوين متناقضين ( الأول أب طيب ولكنه غائب والثاني مواطن عميل ولكنه حاضر ) وهو لا يجد أي حل لهذه المعادلة الصعبة والتي يزيدها جهل الشارع ومزايداته مأساوية فسعيد لن يخرج من صمته المُعتاد ليواجه « رجل الشارع » الا ليعلن أنه اذا كان العميل يستحق ابشع عقاب، فانه لا شيء يمكن أن يُبرر مُعاقبة المدنيين (أفراد أسرته) .
فحسب سعيد فان المسؤول الأول عما حدث (من خيانة وتصفية للخائن ) هو الاحتلال وهو من يجب ان يدفع الثمن وهذا الموقف لا يُدافع عنه سعيد نظريا بل لاشعوريا لأن هذا الموقف يُعبر عن مُعاناته الشخصية فهو يُشعر في قرارة نفسه انه عُوقِبَ مرتين وبذنْب لم يرتكبُه لذلك سيرفُض سعيد قتل من لا ذنب لهم سواء عند رفضه الصُعود في الحافلة الإسرائيلية المدنية او من خلال تجنبه الشواطئ المزدحمة بالمدنيين فلقد اختار سعيد البدلان العسكرية ليمسحَ بها عار والده وينتقم ممن قتلوه وليتحرر نهائيا من تُهمة الخيانة ومن صورة الأب التي ظلت تلاحقُه وتنهش احشائه لا عقله كما تتوهم سهى.
8. « دفن » الأب والأمل القادم من « الخارج »
هل فشلت سهى في إثناء سعيد عن عزمه لأنها بالغت في استعمال الحجج العقلية ؟ ام لأنها لم تستعمل أنوثتها وأحاسيسها بما فيه الكفاية ؟ ام لأنها لم تنفذ الى مأساته الحقيقية ؟ أم لأن سعيد كان مُبرمجا ( مثل مُتفجراتِه ) على استعمال وحيد ؟.
الشريط لا يُجيب على مثل هذه الأسئلة ولكن سهى تظل ،رغم فشلها مع سعيد، نمُوذجا إيجابيا (تمازج فريد بين الداخل والخارج وبين الماضي والحاضر وبين الشرق والغرب وبين الحلم والحقيقة وبين التواصل والقطيعة وبين المثالية والواقعية وبين الأبيض والأسود ...) بل لعلها الأمل الوحيد في الشريط لأنها تبادر و « تفعل » ( ولا تبحث عن « رد فعل ») فهي تُحاور الجميع وبصدق وتُصر على إصلاح الساعة المُعطلة وترومُ التصالح مع الماضي بحلوه ومُره (أشرطة الشهداء والعملاء ) فهي في كل ذلك وغيره، على طرف نقيض مع سعيد وخاصة فيما يتعلق بتحررها من صورة الأب فقد أبدعت طريقها بمفردها وسلكته بشجاعة وبأحاسيس جعلها تلذذ الحياة وفنونها وتُعطي معاني جديدة للكلمات ( روميو ) وللأشياء وللمقاومة وللشريط.
فسُهي هي النصف الناقص لسعيد ليس فقط لأنها مُتعلمة وميسورة ومولودة بالخارج وابنة شهيد كبير وتؤمن بالصراع الأخلاقي وتمد له يدها وتفتح له بيتها وتقوده الي محل لاصلاح ساعته المُعطلة..بل لأنها دَفنَتْ والدها منذ زمان .
ان قوة سهى ( مُقارنة مع كل من سعيد وخالد ) تتمثل في انها تُعلن وتفعل وتُفكر وتتطور بتناسق داخلي كبير وبوعي وبإرادة شخصية حرة وهي دومًا مُتجهة الى المُستقبل بخلاف بقية الشخصيات المهزُوزة والتي تجعل الماضي نقطة انطلاقها وخط وصولها وتبحث بأدواته عن « رد فعل » أسطوري يكون سريعًا وحاسمًا وبطوليًا وبسيطا ويُعالج في نفس الوقت عُقد الماضي وعبثية الحاضر ومُزايدات المجتمع...
ان سهى حين تقف أمام الحاجز الأمني او أمام القائد العسكري للتنظيم تقول بنظراتها وبكل جسْمها : « انا اعرف ما أريد أما انتم فتبحثون عن صدى لخوفكم... والخائفون لا يصنعُون لا الحرية ولا الكرامة ولا التاريخ ».
9. .تطور الشخصيات
من أجمل ما في الشريط قدرتُه على تجنبِ فخي النمطيّة والخطيّة خاصة فيما يتعلق بتطور الشخصيات وعلاقات بعضها ببعض، فعلاقة سعيد بخالد مثلا ليست علاقة بسيطة او عادية ( ليست علاقة بطل بمساعده او بمعرقله ) بل هي علاقة نفس الشخصية بجانب منها ولكن ذلك لم يمنع تطور كل من خالد وسعيد بشكل مُسْتقل .
فسعيد يظهر في بداية الشريط مُختلف عن خالد وينتهي أيضا مُختلف عنه وأثناء الشريط سيُغيرا مواقعهما ويمر كل منهما بلحظات ضعف وشك مع البقاء صديقين الى آخر لحظة فيدافع خالد عن سعيد نافيا الشكوك المُوجهة ضده ويُساعد سعيد (عمليا ) خالد في قراره القاضي بالتراجع .
فالمشهد الأول يبدأ بنقاش بيزنطي يدور (ظاهريا) حول تقويم نتائج إصلاح (سيارة قديمة) وينتهي الى استعمال العنف الذي سيُنهي مشكل ويتسبب في آخر ( طرد ) ويبدو آنذلك الصديقان في خندق واحد ولكن يكتشف المتفرج تدريجيا ان الاختلاف بين سعيد وخالد ليس مُجرد اختلاف في رُدود الفعل او في الأدوار بل انه اختلاف أعمق، فمأساة سعيد اعمق من ان يُعبر عنها بالصياح والهيجان والكلمات والعنف البسيط وحاجة سعيد الى الحياة ( الموسيقي ) أعقد من ان يفهمها خالد.
فسعيد منذ البداية، يُحدّد بمفرده ومن موقعه الشخصي مفهوم الحقيقة والأخلاق ويُبادر بالتنفيذ دون تفكير فهو لا « يسرق » موسيقى الآخرين بل يستعمل ما هو مُتاح، وهنا يكمُن اختلافه الجوهري سواء مع خالد (المُزايد) أو خاصة مع صاحبة الموسيقى (سُهى ) والتى تبدو صاحبة قرار وفعل واختيار وتدرك جيدا ما تريد ( ليس فقط فيما يتعلق بإصلاح السيارة القديمة ) .
وتبدأ أحداث الشريط تتسارع وتتطور الشخصيات فعليا مع « العد العكسي » للعملية الانتحارية، حين ينتقل الصديقان فجأة من حياة رتيبة كئيبة لا روح فيها، حياة خارج التاريخ والجغرافيا والمنطق إلى ساحة الفعل (في التاريخ) والركض (خلف الوقت) فقد أصبحَا، بين عشية وضحاها، محل إهتمام كبير وعناية وتقدير وتحولا الي مركز العالم ( السُفلي ) ونجميه الذين يأتي القادة لتحيتهما وتطبعُ صُورهما مُعلقات وتنصبُ من أجلهما الموائد وتُسهل لهما عمليات التسلل ( الى العالم الآخر ).
ومرة اخرى يبدو سعيد وخالد في خندق واحد ولكن كلما ازداد الضغط وتقدم الوقت تأكد اختلاف طبائعهما.
فشخصية خالد مُعبّرة وانفعالية ( يفرح بقرار انتقائه للعملية وبملاقاة الزعماء ويتحمس للوصية وللبطولة ويبدو واثقا من نفسه ...) وذلك بخلاف سعيد الصامت والحزين والمُنكمش على نفسه والذي تحمل نظراته شكا وقلقا يظهر أحيانا من خلال أسئلة مُحْرجة وفي غير وقتها ( حين يسأل أمه عن أبيه ويفاجأ جمال : « وماذا بعد العملية » ؟ ).
ذلك ان من ابرز ما يميز سعيد ان ليس له أي إدراك للزمن فقد تتوجّه الى بيت سُهى فجرًا ( ليضع مفاتيح سيارتها تحت باب بيتها ! )، ولما وجدها مُستيقظة تفتح له الباب وتدعوه، بدأ معها حوارًا « غريبًا » حول المُقاومة والحياة والسينما ...والحال ان كل شيء ( موقف سهى ومقدماتها والتوقيت الليلي وقصر الوقت المتبقي ... ) يُشجع على بداية حوار روحي أعمق ( العبادة حسب الشريط ) خاصة وان ميلا عاطفيا بدأ ينمو داخل سعيد جسّدته لحظة تردد (متزامنة مع حسرة سُهى وترددها ) وهي لحظة حب لم يقتلها الخوف من المُحرمات ( غير موجودة في الشريط ) بل كون سعيد يعيش خارج اللحظة فهو منذ ساعات (وربما منذ سنوات) آلة مُبرمجة لمُهمة وحيدة !.
وعند التسلل الأول، سيظهر أول اختلاف عملي بين خالد وسعيد، فالأول يفر في حين يتقدم الثاني ويُحاول ارتجال عملية « خاصة » ولكن وبعد تردد حَسَمهُ حسه الإنساني (الذي أفاقه ظهور الطفلة داخل الحافلة ) عاد سعيد عبر الأسلاك إلى عالمه السري وحيدًا وخفيفا ( رغم المتفجرات) وظل يركض كالشبح بحثا عن رفيق الدرب وعن « الأحباب » لكنه حين عاد من حيث لا يعود أحد، اكتشف « قاعة العمليات » خاوية وخالد غائب وأمّه لا تشعر به ( مشهد جميل ) ويتفطن في تلك اللحظة انه يفِرُّ من نفسه ومن جُرحه الداخلي الذي تُثيره رائحة الموت لذلك ورغم التقائه بسهى ( ورغم القبلة ) يتوجه الى مقبرة أبيه لمحاولة تفجير نفسه.
في الأثناء يظهر خالد على حقيقته شابًا عاديًا يتألم لأبسط شيء ولكنه يظل رغم ضعفه رفيع الأخلاق ووفيا لصديقه يُدافع عنه (على حساب التنظيم) ويظل مُسامحا في حواره مع سهى وهو يقود بها السيارة بحثا عن سعيد فينجح بسهولة في تجنب الحواجز ( الإسرائيلية ) والتخلص من الملاحقات (الفلسطينية) لكنه يظل أسير شخصيته الضعيفة والمتوجهة الى الماضي والتي تتأكد عبر كل الشريط.
ويلتقي الجميع في « المقر السري » للتنظيم المُشرف على العملية من أجل فصل المتفجرات عن صدر سعيد ومن اجل استجوابه بعد ان اصبح محل شكوك لكن سعيد لن يُدافع عن نفسه بل يُردّدُ تشبثه بالموت ويُعبّر عن « جرحه » وعن دافعه الأول في هذه العملية ( في نفس الوقت تقف سهى الى جانبه بشجاعة في وسط رجالي وسري وخطير في حين يكتفى صديقه بالبكاء).
فالشريط لا يجزم بشي ويتجنب الثنائيات والخطية وقوته في الحبكة التي يتم بها السرد وكيفية بناء الشخصيات وتطويرها وكيفية مُباغتتها بالأحداث المتسارعة فالشخصيات تبدو قادرة في أي لحظة على ان تُغير مصِيرها وان تفعل الشيء ونقيضه فهي تشك وتتردد وتتألم وتقرر ولكن الفعل يُراوغ جميع المُقدمات والانتظارات فالشخصيات تتطور وتتغير في مسار غريب ولكنه شبه محتوم، فخالد ينتهي ضائعا وقلقا وبلا أهداف... وسعيد ينتهي بطلا.......لكنهما ينتهيان الى ما انتهيا اليه « رغم انفهما » وفي استنساخ كسول لنماذج سابقة وربما لذلك كانا ( بخلاف سهى ) محل تهكم من قبل المخرج.
10. التهكم لتعرية الذات
السُخرة السوداء لم تسقط قط إلى الابتذال أو الكاريكاتور او الأحكام القيمية فتكرار عملية تصوير وصية خالد بسبب عطب في الكاميرا وإقحام بعض تفاصيل الحياة اليومية ( فيلتر المياه و الأكل ) ينقل الشريط الى مستوى نقدي كبير مُوجه أساسا ضد الذات (المتكلسة) ليكشف تناقضاتها وليسائلها حول بعض التابوهات.
فالشريط تهكمي ومُخادع على غرار عنوانه الذى يجمع بين مفهومين يُقصيان بعضهما بعضا وينتميان لحقلين مُتناقضين فاذا كان الحلم ( الجنة ) مشروعا فان استعجاليته تجعله غريبا ومُستحيلا، فالشريط مثل عنوانه دعوة للتساؤل حول بعض المعاني الأساسية ولمُراجعة بعض المفاهيم البديهية اكثر منه سخرية استهزائية .
فلا الجنة جنة ولا سعيد سعيد ولا خالد مُخلد ولا الوصية تُسجل ولا الحواجز حواجز ولا الانفجار انفجارا ( فهو فراغ وبياض ) ولا الانتحاري انتحاري.... ولا خاصة الطقوس السابقة للانتحار واقعية رغم دقة تفاصيلها .
ففي مشهد جميل يُعبر عن روح الشريط وقوته تختلط كل الطقوس والرموز والمشاعر حين يَستسلم سعيد وخالد ( فكريا وجسميا ) لفريق من التقنيين المُحْترفين فتتواتر وتتداخل أجواء غريبة وهجينة تعبر عن الخشوع والهيبة حينا والتهكم والنقد أحيانا أخرى وتربط قمة البطولة بأبسط الأشياء لتعود بعد ذلك المشاهد « الجدية » بإيقاعها المُتميز وصورها « المُحجبة » والمتداخلة لتُصعد التشويق والضغط ( الغسيل والحلاقة وتلبيس القميص الابيض والبدلة السوداء..) حتى يجد المُتفرج نفسه على طاولة « العشاء الأخير ».
في هذا المشهد تختلط الديانات والمناسبات والرموز والرسالات وتتنوع حركة الكاميرا وتختلف الزوايا وتتنوع صور الموت وتتقلب وتظهر بعضها مُشوشة فيبدو المناخ غريبا يجمع بين طُقوس اجتماعية متناقضة ( غسل الموتى وإعداد العروس) وأخرى عصرية ( شبه طبية ) فيمتزج الاجتماعي بالديني والديني بالأسطوري والاسطوري بالطبي والماضي بالمستقبل والخوف بالاحتفال والخشوع بالسخرية والوثائقي بالروائي والجد بالهزل والخلود بالأكل والأكل بالأم والوصية والوصية والأم بالأم ( المعنوية ولطبيعية ) والأم بالماء...وتقترن الوصيتان ( وصية الابن الى امه ووصية الشهيد الى شعبه) بالشك فلا يعلم أحد هل ستُبلغ الوصيتان ام لا رغم « وثوقية » القائد الذي يُؤكد حقائق لا تصمد امام التجربة فهو يعلن ان الشك لا يرتقي الى المُتفجرات لأنها مُتطورة ومُبرمجة حتى لا يمكن فكها وحتى تكون طريقاً بدون رجعة.
لكن الشريط، كعادته، يُفاجئ أبطاله ومُشاهديه، فيُعوض « مُتفجرات » سعيد ولا يفكها فقط ( مثل مُتفجرات خالد التي ستفك مرتين ) بأخرى جديدة مُختلفة عن الأولى في دوافعها والتي أعترف بها سعيد واعلنها صراحة ولعل هذا الإعلان هو الذى سمح للمخرج بالذهاب الى حد تنفيذ ذلك الانفجار الداخلي ( الأبيض) الذي يبدو ضروري رغم بشاعته.
لكن الشريط يُحول وعن وعي وجهة الانفجار، فسعيد في اللحظة الحاسمة والأخيرة لا ينظر نحو الجنود الإسرائيليين ( بخلاف التعليمات التي تلقاها ) بل نحو أعماقه وذاته، فتغوص الكاميرا معه وفي عينيه ( في لقطة خالدة ) ليقرأ داخلها المتفرج صفحات بيضاء خالية من الحقد والكره وحب الدماء والتطلع الي الجنة والحور العين او البطولة والخُلود... فسعيد يفكر في إنقاذ شرف العائلة المُدنس وإنهاء موت عبثية مفروضة عليه بفضل فعل انتحاري هو في نهاية التحليل نفس الفعل الذي قام به والده منذ سنين، ففي الحالتين ينتهي الأمر الى موتٍ لا هي إرادية ولا هي اضطرارية، موت لا هي سياسية ولا هي دينية، موت حتمي فرضتها ظروف تتجاوز الفرد ولا تترك له أي خيار باستثناء الموت.
فكل الشريط يمكن ان يُقرأ بعكس منطوقِه الظاهر وجل المشاهد تنتهي بخلاف مُقدماتها وتخفي اهم ما فيها والشريط عموما لا يطفئ أي عطش بل يثير اسئلة حارقة وبأسلوب خاص يجعل كل شيء مُمكن وغير ممكن وكل شيء غير منتظر ومنتظر وكل شيء حتمي واختياري وكل شيء شخصي وعمومي وكل شيء بديهي وهش...باستثناء الكرامة.
11. الكرامة قبل الاستقلال
الى جانب الصورة العبثية للمعاناة اليومية والتي تضفي بعدا انسانيا للمأساة التي يُعبر عنها الانتحاري بأشلائه، فان الشريط يكشف، في آخر الشريط، الفرو قات الضخمة بين الحياة الإسرائيلية وبين الخراب الفلسطيني وهي فوارق لا تفصل بينها سوى بعض أسلاك مثقُوبة تُحاول إخفاء الحرب والاحتلال.
فكأن الشريط يقول ان المشكل مع الاحتلال ليس فقط سياسي أمني ومعيشي ( نقاط التفتيش، دوريات الجيش الحواجز، الدمار ومشاكل المياه والكهرباء، ..) بل أيضا في المسافة اللاأخلاقية التي تفصل بين « العالمين »، فالشوارع الإسرائيلية فخمة وحديثة وجميلة ونظيفة والشواطئ مُزدحمة بالمُستحمين الذين ينعمون بكل المُتع مُتجاهلين حقيقة ان أمنهم مرهون بأخلاقية علاقتهم بجيرانهم المسجونين في أرضهم والمطعونين في كرامتهم .
والشريط بقدر التصاقه بالواقع اليومي وتفاصيله بقدر ابتعاده عن الخطاب الرسمي ومؤسساته وتتجاهله أوسلو وسلطتها وتغييبه للزمن السياسي ولكل من الإيديولوجيا والدين فهو لا يتوجه إلى المؤييدين سلفا ولا يتحدث عن ظرف معين بل يرفع القضية الى الإنسانية قاطبة فلا يختزل الحلم الفلسطيني في دويلة وبعض رموز ( القدس والعلم وصورة الرئيس عرفات وصراع على الأرض...كما في اليد الإلهية) بل يطالب وحالا بالكرامة .
خاتمة
في إحدى أشرس الردود الصهيونية على الشريط تحت عنوان « الجنة الآن دعاية صلب دعاية » يرى صاحبه ان الاحتلال لا علاقة له بعبثية الحياة اليومية وانسداد الأفق بدليل ان آلاف الشبان العرب في الدول غير المحتلة يركبون زوارق الموت هربا من جحيم الجزائر والرباط والدار البيضاء[1] . ورغم ان هذا التعليق لا علاقة له بالشريط بل بشريط ثاني يقترحه هذا الناقد، فاني أجده مهما لأنه يوسع « القضية » الى افق لم يتناوله بعد السينمائيون العرب.
[1] Un des moteurs du film est la description de la vie absurde, sans horizon des jeunes palestiniens. Le film en accuse « l’occupation » israélienne. Faux encore une fois. Les rapports de l’ONU sur le développement humain du monde arabe, élaborés par des Arabes, ont établi que l’immense majorité des moins de 25 ans de l’ensemble du monde arabe n’avaient qu’un rêve : quitter leurs pays pour l’Occident. La jeunesse du Maghreb déploie des trésors d’ingéniosité pour entrer dans l’Union européenne et surtout quitter, Alger, Rabat, Casablanca. Parce que monde arabe dans son ensemble est un immense repoussoir pour sa jeunesse à qui il ferme tout avenir. : http://www.objectif-info.com/AP/paradise.htm
فالشريط يتعامل بتواضع واحترام مع كل من السينما ( ولغتها ) والموضوع (وشخصياته) والجمهور( وخلفياته) والعصر (وقيمه) وهو ما جعله ثرٍيًّا دون إجابات وجَسُورًا دون استفزازات ومُجدّداً دون مُزايدات، فنجحَ، رغم مَوضُوعِه المُفَخّخ، في تجنّبِ التنميط والتسطيح والحَشو والتلاعب والأحكام والدعاية ....وغير ذلك مما يتخفى، عادة، وراء القضية (الفلسطينية) فيُحَوّلُها ضجيجًا بلا روح وتكرارًا بلا معنى.
1. السينما موسيقى داخلية
لقد ذهب هذا الشريط « الباطني » و« المينيمالي » في تجرّدِه من كل تزويق وفي « لُزُومِه ما لا يلزم » إلى حد اللإستغْناء عن المُوسيقى دون ان يُحدث ذلك أي فراغ أو ضعف لأن الصَمْت كان خيارًا أساسيا في الشريط ( وفي شخصية سَعيد ) فكان وسيلة فذة للتعبير عمَّا لا يُمكن أن تُعبر عنه لا الكلمات ولا الأصوات ولا حتى الصُور أحيانا ( المشهد الأخير ) .
ولذلك كان الحُضور الوحيد للموسيقى (في بداية الشريط) قصيرًا وبالصورة والتعليق وهو ما أفقدها وظائفها « التصويرية » لتتحول الى مُجرد « إكسسوار » بأبعاد درامية ورمزية (بداية علاقة سعيد بسُهى بالتوازي مع بداية اختلافه مع خالد ) وتعلة للإثارة حوار نظري ( حول تنوع مفاهيم الأخلاق وتعدد زوايا الحقيقة ).
ان قدرة هذا الشريط على التعبير عن « المناخات » وتصوير الشخصيات ومواكبة التحولات والغوص في الأعماق وشد المتفرج، تغنيه عن أي تشويش أو ثرثرة لأن الشريط اختار الإصغاء الى براكين الألم الصامت.
2. فلسطين قضية « إنسانية »
يتجاسر هذا الشريط على إحدى أعقد القضايا الدولية ( الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ) في تقاطعها مع إحدى أهم الحجج الدعائية لما يُعرفُ بالحرب على الإرهاب :العمليات الانتحارية.
ولكن الشريط يُسَلِّطُ علي هذه العمليات أضواء « جديدة » تصدِم « أصحاب القضية » قبل « أعدائِها » لأنها تكشف، بجرأة ( وبلطف وحرفية)، العُمق الإنساني المأساوي لما يُسَمّي بالانتحاريين.
فبعيدًا عن الكليشيهات المَانويّة (manichéistes) المُتداولة عن فلسطين وعن المُقاومة، يكشف الشريط ان الانتحاريين ليسُوا أبْطالا أسطوريين ( كما تُروج عنهم دعايتهم حتى صلب الشريط ) ولا مُتدينين مُتعصبين أو مُتطرفين مُتعطشين للدماء، فمن خلال عدة مشاهد مُؤثرة ( مثل مشهدي تصوير الوصية وقدوم الحافلة...وغيرهما ) يُدافع الشريط على فرضية وحيدة وبسيطة مفادها انه وراء كل انتحاري إنسان « عادي ».
وبقدر ما تبدو هذه الفرضية بديهية بقدر ما سيُدافع عنها الشريط بحماس ليُحولها الى « سلاح » مُربِك للوعي وللاحساس ومُهدم للمسلمات من خلال مواقف رهيبة وشخصيات مُزلزلة على غرار شخصية سعيد التي يتعاطف معها الجمهور رغم انها أبعد ما تكون عن البُطولة فهي لا تُثير لا الإعجاب ولا الكره.
فالجمهور الذي أحب سعيد وتضامن معه لا يتعاطف ( بالضرورة ) مع القضية أو مع شكل النضال او مع المُناضل بقدر ما يتعاطف مع الإنسان الذي بتفجير جسمه يُفجّر أسئلة خطيرة ومشاعر مُتناقضة وقضايا مُحيّرة وينتقم لطفل ( ولجيل ) مُغتصب البراءة ومسلُوب الأحلام.
3. عبثية الحياة وحكمة الموت
الدمارُ فظيع والموتُ مُقيم والفراغ مُريع والعبثُ يُعَشْعِشُ في كل زاوية بشكل مُسْتديم و المللُ يُهيمنُ على كل لحظة و الخرابُ يُدمّرُ المكان والإهانةُ تنخرُ كل المدارك وتُفْقِدُ الأشياء البسيطة ألوانها وخصائصها، فيُشربُ الشاي باردًا ويُصبح سُكّرُه بلا طعم ويفقد سعيد أي رغبة في أي شيء وينتفي لديه الإحساس باستثناء الإحساس بالقهر والعجز ...في هذه الظروف يصبح الموتُ ميلادًا وعُرْسًا وحياة.
فالشريط لا يكتفي بتوجيه رسالة سياسية ضد الاحتلال ولا يقف عند حد تفهم تحول الجسم إلى وسيلة دفاعية ضد الآلة العسكرية المُتعجرفة، وانما يذهب الى محاولة فهم بعض مفارقات الاحتلال والتي تدفع بعض الشبان ليسْلبوا أنفسَهم مَا يُبقيه الاحتلال فيهم من « حياة ».
فالشريط ركض مُؤثر( دون مُحاكمات ) لشخصيات تبحثُ عن معني وعن بعض كرامة وتسعي لإعطاء حياتها الفارغة مَضمُونًا وهو وان كان يتفهم حاجة بعض الشباب الى نفْي تُهم قديمة ( منسوبة الى آبائهم ) تتعلق بالخيانة ( سعيد ) والجبن ( خالد ) فانه يُثير حول هذا « الخيار » عدة أسئلة وعلى رأسها : « هل يتعلق الأمر فعلا باختيار » ؟
ودون إدانة أو رفض يتفهم الشريط هذه العمليات الانتحارية ويُوضح أنها ليست « فعلا » ( ليست ركضًا نحو جنة مثلا) ما بقدر ما هي « رد فعل » وفرار من عبثية الحياة المفرُوضة على صديقين عاديين يقتلان الوقت بين إصلاح سيارات قديمة وتدخين النرجيلة على مشارف مدينة ميتة وحزينة، وسيكتشف المُتفرج تدريجيا ان تلك العبثية ليست وليدة الاحتلال الإسرائيلي ( فقط ) .
فالشريط يُحطم وبشكل منهجي، كل الصُور النمطية السائدة (عن الاحتلال وعن العمليات الانتحارية) ويتجاوز التعامل الانفعالي ويرفض اختزال الموضوع في بعد واحد ( فردي أو إيديولوجي أو سياسي ) ويتجنب كل الإجابات الجاهزة والأغنيات الممجوجة لأن المعاناة الفلسطينية، أعقد مما يتوهم البعض، وتعاني أيضا من... « احتلال داخلي ».
4. انتفاضة ضد الاحتلال « الداخلي »
بقدر ما يكشف الشريط عبثية « الحياة » اليومية تحت الاحتلال بقدر ما يُهاجم « الذات » الميتة .
وللتعبير عن تداخل الإحتلالين ( الخارجي العسكري والداخلي الذهني )، كانت الأحداث (والكاميرا) تتنقل من الفضاءات الداخلية إلى الفضاءات الخارجية ومن الخاص إلى العام ( أو بالعكس ) بسلاسة وببراعة وبروح مُتفردة وبطريقة سينمائية راقية، قد يجد فيها المتفرج قراءة لصفحات من « الانتحار » لدوركايم أو إحالة إلى بعض مراجع التحليل النفسي ولكن لن يجد فيها أي توجه ( سياسي او ايديولوجي او ديني ) لتضخيم الجبل الجليدي (iceberg ) الإسرائيلي.
فسعيد له مُشكل أساسي مع... الأب وهو بسبب ذلك عاجز عن التواصل مع أمه (وعن تحطيم « الجدار » الفاصل بينهما) وعاجز عن الفعل والتفكير والإحساس بما حوله ومُنقطع عن الكلام ومُنكمش على ذاته وهو لا يفكر في مقاومة مُحتل بقدر ما يفكر في انهاء مُعاناة وتصفية حسابات .
فبالنسبة إلى سعيد ، تداخلت الأهداف ( المُعلنة والخفِية / الخاصة والعامة ) بشكل مُرْبك وتنوعت العوائق الداخلية بشكل مُحيّر وترابطت الجزئيات المُتناقضة بشكل مُدهش وتتالت الأحداث غير المُنتظرة وتطوّرت بشكل درامي تصاعدي يُنسِى المُتفرج الأحكام المُسبّقة، ليُدْمجه في عُمق الشخصية وليفْرض عليه ان يعِيش مع سعيد بتأثر وتفاعل كبيرين ليس لانه بطل يُقاوم الاحتلال بل لأنه طفل في صدام بطولي مع « الاحتلال » الداخلي .
فمنذ المشهدين الأول والثاني يُؤكد المخرج أنه يغُوص في الحياة اليومية ويُصور الزمن الفلسطيني المُتوقف والتوتر الداخلي والحوار العبثي (الذي ينتهي الى العنف) وانه يدرك خطورة الاحتلال وبشاعته، ولكنه يُصوب الكاميرا (والسُخرية السوداء) نحو « الذات » الميتة .
5. الأبوة المُدَمِّرة
لقد توقَّفَ الزمنُ كليّا بالنسبة إلى سعيد بعد فاجعة غَطّتْ عمّا سِواها من فواجع فنشأ هذا الطفل الفلسطيني الذي لم يَقتُله الحرمان ولم تُدمره المُخيمات ولم تُخرسه نيران جيش الاحتلال، حزينا ومُحطماً وكتوما بسبب ما تركه الوالد من صورة سَلبية مُكبّلة ومُتجدّدة ( في عيون الآخرين )، وهذه الصورة تُخيمُ على كل الشريط من أوله إلى آخره.
لقد عرف خالد وسعيد ظروف عيش صعبة في المخيمات وطفولة قاتمة لم تكن آلامها تقتصر على الجوع والفقر والحرمان وإهانات الاحتلال بل تتعداه الي إهانة من نوع خاص يبدو انها لا تمّحِي بمرور الأيام بل تتضخم، فلقد دخل الجيش الإسرائيلي منزل والد خالد وخيره أي الرجلين يُريد ان يحتفظ بها فقبل الإهانة عوض الموت اما والد سعيد فقد كان عميلا وتمت تصفيته عندما كان هو في سن العاشرة.
فلا وسيلة إذن للصديقين لمحو العار الأبوي بغير العملية الانتحارية التي قبل ان تكون عملية سياسية تبدو دينا عائليا بل علاجا نفسانيا وهو ما حرص المخرج على إبرازه في المشهد الوحيد الذي يتكلم فيه سعيد الكتُوم بإطناب عن نفسه وعن دوافعه وهو على « سرير » زعيم عسكري يُنصت اليه كما لو كان طبيبًا نفسانيا !.
في هذا المشهد لا يحلم سعيد ( بخلاف خالد ) بموت مُشترك مع صديقه ولا يُفكر في اغتيال « الآخرين » ( لم يتحدث عنهم الا في مناسبات قليلة حين يحتج على احتكارهم لصفة الضحية ) بل يعلن عزمه اغتيال ذاته المهانة وإيقاف موته البطيء وقتل أباه نهائيا.
فرغم نيلِه لأقصى عِقاب وغيابِه الجسدي منذ سنين طويلة، فان هذا الأب يبدو بالنسبة الى سعيد، أكثر حضورًا وأبشع من الاحتلال، فهو يُعطلُ إدراكه للزمن ويُطاردُ أحلامه ويمنعُ عنه حتى ابتسامة الوداع، انه اب مُدمّر يُطاردُ ابنه في كل مكان ويفرض عليه حالة فرار دائم ويجعله عاجزًا لا فقط عن رؤية الحقائق بل مُرتبكا في مواجتها مثلما حصل في محل التصوير (أمام أشرطة الشهداء والعملاء ) حيث صورة الأب ( الافتراضية ) تُزاحم الصُورة الدعائية لسعيد (الشهيد) فتنتصر عليها فيهرب سعيد مُرتبكا لأن والده حاضر في أحشاءه وفي ذهنه كورم سرطاني خبيث استفْحل حتى أصبح الموتُ ( الرحيم ) علاجًا وحيدًا ومُستعجلا.
6. ثلاثية الأبوة والزمن والاحتلال
ان الأبوة، وان كانت ثقيلة بسبب الاحتلال، فإنها لا تبدو دوما مُكبّلة ومُهينة ومُدمرة بسببه، اذ لها في الشريط ثلاثة نماذج (تتدرج من الشهيد الي العميل مُرورًا بمن هو في منزلة بين المنزلتين ) تُواصل الفعل في الحاضر وتتكرر في اغلب الأحيان (وان بشكل مُختلف وبتبادل للمواقع ) ولكنها ليست دوما سلبيّة.
فسعيد الذي ينتهي « انتحاري » يُواصل مِشوار البطولة ( والد سُهى ) وخالد الذي ينتهي ضعيفا ومُترددا وهاربًا من « المُواجهة»، يُواصل (وان بصفة مُختلفة) مسيرة الجُبن ( والد سعيد ) في حين تُعتبر سُهى « وريثة » المُواجهة السلمية ( والد خالد ).
ومن خلال هذه النماذج الثلاثة وتمظهراتها عبر جيلين مُختلفين، يتبين ان التطور الوحيد حَصَل مع نمُوذج الحل الواقعي اذ مَر هذا النموذج من « اللافعل » ) مُجرد المُكُوث السلبي في البيت الصغير وتحمل جرائم الاحتلال فرديا ) الى اختيار الخروجُ الى عالم الفعل العمومي من اجل ثلاثة أهداف مُتكاملة : مُهاجمة الاحتلال أخلاقيا والتحاور مع المُقاومين سلميا والإقبال على الحياة بنهم، فسُهى تمثل (منذُ أول ظهور لها تتحدى نظرات الجنود على الحواجز )، تطوير للمُواجهة اليومية « السلمية » مع الاحتلالين ( بتطعيمه ببعض كرامة وثقة ) بل وبداية تأصيل نظري لهذا الحل.
ان اثنين من الآباء الثلاثة قُتلوا ومُنذ زمان (أحدهما مات شهيدا والآخر عميلا ) ولكن ما يُؤكد عليه الشريط هو أن « المُشكل » اليوم لا علاقة له لا بالآباء ولا بالماضي ولا بطبيعة ما أقدموا عليه، بل ان المشكل هو استنساخ الماضي وتكرار نماذجه ومواصلة اعتماد معاييره ( العاطفية والسطحية ) من قبل بعض الأبناء.
فخالد وسعيد مثلا لا يعيشان ( الاحتلال ) الا من خلال قراءة انفعالية ومُتطرفة للأب ومن زاوية قراءة معينة (مُشَوِّهة ) للتاريخ وللحقائق ولعل أفضل مثال على هذه القراءة ان والد خالد مُعاق لأنه تصدى (بطريقته الخاصة) للاحتلال ولكن ابنه يُنظر اليه كما لو كان عميلا ( لانه لم يُدافع حتى الموت ) ويعتبره مصدر عار ولا يرى في واقعيته ( ضحى برجله ولم يفر) ما يجعله جدير بأي احترام، فالمفارقة ان هذا الأب هو الحي الوحيد في الشريط ولكنه الميت الوحيد بالنسبة الى الأبناء.
ويبدو ان هذا التصنيف الثنائي هو السائد لدى أبناء « الداخل » الذين تعودُوا الا يُفكروا إلا بالأسود والأبيض واعتادوا على أن البطل هو الميت وان الشجاعة هي الصدام المادي المُباشر وان المقاومة غاية ووسيلة وأن الأب لا بد أن يظل حيا وهو ما جاءت سهى لدحضه قولا وفعلا (وعقليا وعاطفيا) لكنها فشلت مع سعيد الذي كان طوال الشريط يعيشُ في الماضي وبعقده الى درجة انه لم يكن قادرا على رؤية الجانب الأنثوي في سهى فقد بدا أكثر اهتمامًا بوالدها وكان يتوهم انها مثله تستمد من الأب كل « المرجعيات » والمعنويات.
ولكن ورغم تأكيد سُهى أنها لا ترى في الماضي لا مصدر عار ( قصة تصفية والده) ولا مصدر فخر (والدها الشهيد )، فان سعيد رفض ( فكربا وعمليا ) منح الموتى تقاعداً ومضي في قتل نفسه مرتين ( بالحياة وبالانتحار ) وبشكل رسمه له المجتمع ودفعه اليه دفعًا وأعده إليه مُنذ سنوات.
فالمشكل ليس في الآباء بل في تعامل الأبناء معهم والمعركة ليست ضد الآخر ( الإسرائيلي) بقدر ما هي ضد الذات وضد عديد المُسلمات و « السجون » الاجتماعية.
7. « قتل » الأب من خلال قتل الذات
يمثل سعيد وخالد وجهان لعملة واحدة فمأساتهما واحدة وعقدة كل منهما مُتشابهة وان تنوعت الدرجات واختلفت الردود.
لكن خالد سطحي ويعيش الإحتلال وعقدة الأب بنفس الشكل فيُزايد ويتحمس وينفعل ويخطب ويُسجل وصيّة طويلة ويحكم على والده بشكل قاسي ( تمني لو اختار الدفاع الانتحاري بدل الإهانة ) ولكنه يفر ويُنهي الشريط وهو يبكي خجلا من نفسه، اما سعيد فنظرته الى الأمور أكثر نسبية فهو يعيش مُمزقا بأبوين متناقضين ( الأول أب طيب ولكنه غائب والثاني مواطن عميل ولكنه حاضر ) وهو لا يجد أي حل لهذه المعادلة الصعبة والتي يزيدها جهل الشارع ومزايداته مأساوية فسعيد لن يخرج من صمته المُعتاد ليواجه « رجل الشارع » الا ليعلن أنه اذا كان العميل يستحق ابشع عقاب، فانه لا شيء يمكن أن يُبرر مُعاقبة المدنيين (أفراد أسرته) .
فحسب سعيد فان المسؤول الأول عما حدث (من خيانة وتصفية للخائن ) هو الاحتلال وهو من يجب ان يدفع الثمن وهذا الموقف لا يُدافع عنه سعيد نظريا بل لاشعوريا لأن هذا الموقف يُعبر عن مُعاناته الشخصية فهو يُشعر في قرارة نفسه انه عُوقِبَ مرتين وبذنْب لم يرتكبُه لذلك سيرفُض سعيد قتل من لا ذنب لهم سواء عند رفضه الصُعود في الحافلة الإسرائيلية المدنية او من خلال تجنبه الشواطئ المزدحمة بالمدنيين فلقد اختار سعيد البدلان العسكرية ليمسحَ بها عار والده وينتقم ممن قتلوه وليتحرر نهائيا من تُهمة الخيانة ومن صورة الأب التي ظلت تلاحقُه وتنهش احشائه لا عقله كما تتوهم سهى.
8. « دفن » الأب والأمل القادم من « الخارج »
هل فشلت سهى في إثناء سعيد عن عزمه لأنها بالغت في استعمال الحجج العقلية ؟ ام لأنها لم تستعمل أنوثتها وأحاسيسها بما فيه الكفاية ؟ ام لأنها لم تنفذ الى مأساته الحقيقية ؟ أم لأن سعيد كان مُبرمجا ( مثل مُتفجراتِه ) على استعمال وحيد ؟.
الشريط لا يُجيب على مثل هذه الأسئلة ولكن سهى تظل ،رغم فشلها مع سعيد، نمُوذجا إيجابيا (تمازج فريد بين الداخل والخارج وبين الماضي والحاضر وبين الشرق والغرب وبين الحلم والحقيقة وبين التواصل والقطيعة وبين المثالية والواقعية وبين الأبيض والأسود ...) بل لعلها الأمل الوحيد في الشريط لأنها تبادر و « تفعل » ( ولا تبحث عن « رد فعل ») فهي تُحاور الجميع وبصدق وتُصر على إصلاح الساعة المُعطلة وترومُ التصالح مع الماضي بحلوه ومُره (أشرطة الشهداء والعملاء ) فهي في كل ذلك وغيره، على طرف نقيض مع سعيد وخاصة فيما يتعلق بتحررها من صورة الأب فقد أبدعت طريقها بمفردها وسلكته بشجاعة وبأحاسيس جعلها تلذذ الحياة وفنونها وتُعطي معاني جديدة للكلمات ( روميو ) وللأشياء وللمقاومة وللشريط.
فسُهي هي النصف الناقص لسعيد ليس فقط لأنها مُتعلمة وميسورة ومولودة بالخارج وابنة شهيد كبير وتؤمن بالصراع الأخلاقي وتمد له يدها وتفتح له بيتها وتقوده الي محل لاصلاح ساعته المُعطلة..بل لأنها دَفنَتْ والدها منذ زمان .
ان قوة سهى ( مُقارنة مع كل من سعيد وخالد ) تتمثل في انها تُعلن وتفعل وتُفكر وتتطور بتناسق داخلي كبير وبوعي وبإرادة شخصية حرة وهي دومًا مُتجهة الى المُستقبل بخلاف بقية الشخصيات المهزُوزة والتي تجعل الماضي نقطة انطلاقها وخط وصولها وتبحث بأدواته عن « رد فعل » أسطوري يكون سريعًا وحاسمًا وبطوليًا وبسيطا ويُعالج في نفس الوقت عُقد الماضي وعبثية الحاضر ومُزايدات المجتمع...
ان سهى حين تقف أمام الحاجز الأمني او أمام القائد العسكري للتنظيم تقول بنظراتها وبكل جسْمها : « انا اعرف ما أريد أما انتم فتبحثون عن صدى لخوفكم... والخائفون لا يصنعُون لا الحرية ولا الكرامة ولا التاريخ ».
9. .تطور الشخصيات
من أجمل ما في الشريط قدرتُه على تجنبِ فخي النمطيّة والخطيّة خاصة فيما يتعلق بتطور الشخصيات وعلاقات بعضها ببعض، فعلاقة سعيد بخالد مثلا ليست علاقة بسيطة او عادية ( ليست علاقة بطل بمساعده او بمعرقله ) بل هي علاقة نفس الشخصية بجانب منها ولكن ذلك لم يمنع تطور كل من خالد وسعيد بشكل مُسْتقل .
فسعيد يظهر في بداية الشريط مُختلف عن خالد وينتهي أيضا مُختلف عنه وأثناء الشريط سيُغيرا مواقعهما ويمر كل منهما بلحظات ضعف وشك مع البقاء صديقين الى آخر لحظة فيدافع خالد عن سعيد نافيا الشكوك المُوجهة ضده ويُساعد سعيد (عمليا ) خالد في قراره القاضي بالتراجع .
فالمشهد الأول يبدأ بنقاش بيزنطي يدور (ظاهريا) حول تقويم نتائج إصلاح (سيارة قديمة) وينتهي الى استعمال العنف الذي سيُنهي مشكل ويتسبب في آخر ( طرد ) ويبدو آنذلك الصديقان في خندق واحد ولكن يكتشف المتفرج تدريجيا ان الاختلاف بين سعيد وخالد ليس مُجرد اختلاف في رُدود الفعل او في الأدوار بل انه اختلاف أعمق، فمأساة سعيد اعمق من ان يُعبر عنها بالصياح والهيجان والكلمات والعنف البسيط وحاجة سعيد الى الحياة ( الموسيقي ) أعقد من ان يفهمها خالد.
فسعيد منذ البداية، يُحدّد بمفرده ومن موقعه الشخصي مفهوم الحقيقة والأخلاق ويُبادر بالتنفيذ دون تفكير فهو لا « يسرق » موسيقى الآخرين بل يستعمل ما هو مُتاح، وهنا يكمُن اختلافه الجوهري سواء مع خالد (المُزايد) أو خاصة مع صاحبة الموسيقى (سُهى ) والتى تبدو صاحبة قرار وفعل واختيار وتدرك جيدا ما تريد ( ليس فقط فيما يتعلق بإصلاح السيارة القديمة ) .
وتبدأ أحداث الشريط تتسارع وتتطور الشخصيات فعليا مع « العد العكسي » للعملية الانتحارية، حين ينتقل الصديقان فجأة من حياة رتيبة كئيبة لا روح فيها، حياة خارج التاريخ والجغرافيا والمنطق إلى ساحة الفعل (في التاريخ) والركض (خلف الوقت) فقد أصبحَا، بين عشية وضحاها، محل إهتمام كبير وعناية وتقدير وتحولا الي مركز العالم ( السُفلي ) ونجميه الذين يأتي القادة لتحيتهما وتطبعُ صُورهما مُعلقات وتنصبُ من أجلهما الموائد وتُسهل لهما عمليات التسلل ( الى العالم الآخر ).
ومرة اخرى يبدو سعيد وخالد في خندق واحد ولكن كلما ازداد الضغط وتقدم الوقت تأكد اختلاف طبائعهما.
فشخصية خالد مُعبّرة وانفعالية ( يفرح بقرار انتقائه للعملية وبملاقاة الزعماء ويتحمس للوصية وللبطولة ويبدو واثقا من نفسه ...) وذلك بخلاف سعيد الصامت والحزين والمُنكمش على نفسه والذي تحمل نظراته شكا وقلقا يظهر أحيانا من خلال أسئلة مُحْرجة وفي غير وقتها ( حين يسأل أمه عن أبيه ويفاجأ جمال : « وماذا بعد العملية » ؟ ).
ذلك ان من ابرز ما يميز سعيد ان ليس له أي إدراك للزمن فقد تتوجّه الى بيت سُهى فجرًا ( ليضع مفاتيح سيارتها تحت باب بيتها ! )، ولما وجدها مُستيقظة تفتح له الباب وتدعوه، بدأ معها حوارًا « غريبًا » حول المُقاومة والحياة والسينما ...والحال ان كل شيء ( موقف سهى ومقدماتها والتوقيت الليلي وقصر الوقت المتبقي ... ) يُشجع على بداية حوار روحي أعمق ( العبادة حسب الشريط ) خاصة وان ميلا عاطفيا بدأ ينمو داخل سعيد جسّدته لحظة تردد (متزامنة مع حسرة سُهى وترددها ) وهي لحظة حب لم يقتلها الخوف من المُحرمات ( غير موجودة في الشريط ) بل كون سعيد يعيش خارج اللحظة فهو منذ ساعات (وربما منذ سنوات) آلة مُبرمجة لمُهمة وحيدة !.
وعند التسلل الأول، سيظهر أول اختلاف عملي بين خالد وسعيد، فالأول يفر في حين يتقدم الثاني ويُحاول ارتجال عملية « خاصة » ولكن وبعد تردد حَسَمهُ حسه الإنساني (الذي أفاقه ظهور الطفلة داخل الحافلة ) عاد سعيد عبر الأسلاك إلى عالمه السري وحيدًا وخفيفا ( رغم المتفجرات) وظل يركض كالشبح بحثا عن رفيق الدرب وعن « الأحباب » لكنه حين عاد من حيث لا يعود أحد، اكتشف « قاعة العمليات » خاوية وخالد غائب وأمّه لا تشعر به ( مشهد جميل ) ويتفطن في تلك اللحظة انه يفِرُّ من نفسه ومن جُرحه الداخلي الذي تُثيره رائحة الموت لذلك ورغم التقائه بسهى ( ورغم القبلة ) يتوجه الى مقبرة أبيه لمحاولة تفجير نفسه.
في الأثناء يظهر خالد على حقيقته شابًا عاديًا يتألم لأبسط شيء ولكنه يظل رغم ضعفه رفيع الأخلاق ووفيا لصديقه يُدافع عنه (على حساب التنظيم) ويظل مُسامحا في حواره مع سهى وهو يقود بها السيارة بحثا عن سعيد فينجح بسهولة في تجنب الحواجز ( الإسرائيلية ) والتخلص من الملاحقات (الفلسطينية) لكنه يظل أسير شخصيته الضعيفة والمتوجهة الى الماضي والتي تتأكد عبر كل الشريط.
ويلتقي الجميع في « المقر السري » للتنظيم المُشرف على العملية من أجل فصل المتفجرات عن صدر سعيد ومن اجل استجوابه بعد ان اصبح محل شكوك لكن سعيد لن يُدافع عن نفسه بل يُردّدُ تشبثه بالموت ويُعبّر عن « جرحه » وعن دافعه الأول في هذه العملية ( في نفس الوقت تقف سهى الى جانبه بشجاعة في وسط رجالي وسري وخطير في حين يكتفى صديقه بالبكاء).
فالشريط لا يجزم بشي ويتجنب الثنائيات والخطية وقوته في الحبكة التي يتم بها السرد وكيفية بناء الشخصيات وتطويرها وكيفية مُباغتتها بالأحداث المتسارعة فالشخصيات تبدو قادرة في أي لحظة على ان تُغير مصِيرها وان تفعل الشيء ونقيضه فهي تشك وتتردد وتتألم وتقرر ولكن الفعل يُراوغ جميع المُقدمات والانتظارات فالشخصيات تتطور وتتغير في مسار غريب ولكنه شبه محتوم، فخالد ينتهي ضائعا وقلقا وبلا أهداف... وسعيد ينتهي بطلا.......لكنهما ينتهيان الى ما انتهيا اليه « رغم انفهما » وفي استنساخ كسول لنماذج سابقة وربما لذلك كانا ( بخلاف سهى ) محل تهكم من قبل المخرج.
10. التهكم لتعرية الذات
السُخرة السوداء لم تسقط قط إلى الابتذال أو الكاريكاتور او الأحكام القيمية فتكرار عملية تصوير وصية خالد بسبب عطب في الكاميرا وإقحام بعض تفاصيل الحياة اليومية ( فيلتر المياه و الأكل ) ينقل الشريط الى مستوى نقدي كبير مُوجه أساسا ضد الذات (المتكلسة) ليكشف تناقضاتها وليسائلها حول بعض التابوهات.
فالشريط تهكمي ومُخادع على غرار عنوانه الذى يجمع بين مفهومين يُقصيان بعضهما بعضا وينتميان لحقلين مُتناقضين فاذا كان الحلم ( الجنة ) مشروعا فان استعجاليته تجعله غريبا ومُستحيلا، فالشريط مثل عنوانه دعوة للتساؤل حول بعض المعاني الأساسية ولمُراجعة بعض المفاهيم البديهية اكثر منه سخرية استهزائية .
فلا الجنة جنة ولا سعيد سعيد ولا خالد مُخلد ولا الوصية تُسجل ولا الحواجز حواجز ولا الانفجار انفجارا ( فهو فراغ وبياض ) ولا الانتحاري انتحاري.... ولا خاصة الطقوس السابقة للانتحار واقعية رغم دقة تفاصيلها .
ففي مشهد جميل يُعبر عن روح الشريط وقوته تختلط كل الطقوس والرموز والمشاعر حين يَستسلم سعيد وخالد ( فكريا وجسميا ) لفريق من التقنيين المُحْترفين فتتواتر وتتداخل أجواء غريبة وهجينة تعبر عن الخشوع والهيبة حينا والتهكم والنقد أحيانا أخرى وتربط قمة البطولة بأبسط الأشياء لتعود بعد ذلك المشاهد « الجدية » بإيقاعها المُتميز وصورها « المُحجبة » والمتداخلة لتُصعد التشويق والضغط ( الغسيل والحلاقة وتلبيس القميص الابيض والبدلة السوداء..) حتى يجد المُتفرج نفسه على طاولة « العشاء الأخير ».
في هذا المشهد تختلط الديانات والمناسبات والرموز والرسالات وتتنوع حركة الكاميرا وتختلف الزوايا وتتنوع صور الموت وتتقلب وتظهر بعضها مُشوشة فيبدو المناخ غريبا يجمع بين طُقوس اجتماعية متناقضة ( غسل الموتى وإعداد العروس) وأخرى عصرية ( شبه طبية ) فيمتزج الاجتماعي بالديني والديني بالأسطوري والاسطوري بالطبي والماضي بالمستقبل والخوف بالاحتفال والخشوع بالسخرية والوثائقي بالروائي والجد بالهزل والخلود بالأكل والأكل بالأم والوصية والوصية والأم بالأم ( المعنوية ولطبيعية ) والأم بالماء...وتقترن الوصيتان ( وصية الابن الى امه ووصية الشهيد الى شعبه) بالشك فلا يعلم أحد هل ستُبلغ الوصيتان ام لا رغم « وثوقية » القائد الذي يُؤكد حقائق لا تصمد امام التجربة فهو يعلن ان الشك لا يرتقي الى المُتفجرات لأنها مُتطورة ومُبرمجة حتى لا يمكن فكها وحتى تكون طريقاً بدون رجعة.
لكن الشريط، كعادته، يُفاجئ أبطاله ومُشاهديه، فيُعوض « مُتفجرات » سعيد ولا يفكها فقط ( مثل مُتفجرات خالد التي ستفك مرتين ) بأخرى جديدة مُختلفة عن الأولى في دوافعها والتي أعترف بها سعيد واعلنها صراحة ولعل هذا الإعلان هو الذى سمح للمخرج بالذهاب الى حد تنفيذ ذلك الانفجار الداخلي ( الأبيض) الذي يبدو ضروري رغم بشاعته.
لكن الشريط يُحول وعن وعي وجهة الانفجار، فسعيد في اللحظة الحاسمة والأخيرة لا ينظر نحو الجنود الإسرائيليين ( بخلاف التعليمات التي تلقاها ) بل نحو أعماقه وذاته، فتغوص الكاميرا معه وفي عينيه ( في لقطة خالدة ) ليقرأ داخلها المتفرج صفحات بيضاء خالية من الحقد والكره وحب الدماء والتطلع الي الجنة والحور العين او البطولة والخُلود... فسعيد يفكر في إنقاذ شرف العائلة المُدنس وإنهاء موت عبثية مفروضة عليه بفضل فعل انتحاري هو في نهاية التحليل نفس الفعل الذي قام به والده منذ سنين، ففي الحالتين ينتهي الأمر الى موتٍ لا هي إرادية ولا هي اضطرارية، موت لا هي سياسية ولا هي دينية، موت حتمي فرضتها ظروف تتجاوز الفرد ولا تترك له أي خيار باستثناء الموت.
فكل الشريط يمكن ان يُقرأ بعكس منطوقِه الظاهر وجل المشاهد تنتهي بخلاف مُقدماتها وتخفي اهم ما فيها والشريط عموما لا يطفئ أي عطش بل يثير اسئلة حارقة وبأسلوب خاص يجعل كل شيء مُمكن وغير ممكن وكل شيء غير منتظر ومنتظر وكل شيء حتمي واختياري وكل شيء شخصي وعمومي وكل شيء بديهي وهش...باستثناء الكرامة.
11. الكرامة قبل الاستقلال
الى جانب الصورة العبثية للمعاناة اليومية والتي تضفي بعدا انسانيا للمأساة التي يُعبر عنها الانتحاري بأشلائه، فان الشريط يكشف، في آخر الشريط، الفرو قات الضخمة بين الحياة الإسرائيلية وبين الخراب الفلسطيني وهي فوارق لا تفصل بينها سوى بعض أسلاك مثقُوبة تُحاول إخفاء الحرب والاحتلال.
فكأن الشريط يقول ان المشكل مع الاحتلال ليس فقط سياسي أمني ومعيشي ( نقاط التفتيش، دوريات الجيش الحواجز، الدمار ومشاكل المياه والكهرباء، ..) بل أيضا في المسافة اللاأخلاقية التي تفصل بين « العالمين »، فالشوارع الإسرائيلية فخمة وحديثة وجميلة ونظيفة والشواطئ مُزدحمة بالمُستحمين الذين ينعمون بكل المُتع مُتجاهلين حقيقة ان أمنهم مرهون بأخلاقية علاقتهم بجيرانهم المسجونين في أرضهم والمطعونين في كرامتهم .
والشريط بقدر التصاقه بالواقع اليومي وتفاصيله بقدر ابتعاده عن الخطاب الرسمي ومؤسساته وتتجاهله أوسلو وسلطتها وتغييبه للزمن السياسي ولكل من الإيديولوجيا والدين فهو لا يتوجه إلى المؤييدين سلفا ولا يتحدث عن ظرف معين بل يرفع القضية الى الإنسانية قاطبة فلا يختزل الحلم الفلسطيني في دويلة وبعض رموز ( القدس والعلم وصورة الرئيس عرفات وصراع على الأرض...كما في اليد الإلهية) بل يطالب وحالا بالكرامة .
خاتمة
في إحدى أشرس الردود الصهيونية على الشريط تحت عنوان « الجنة الآن دعاية صلب دعاية » يرى صاحبه ان الاحتلال لا علاقة له بعبثية الحياة اليومية وانسداد الأفق بدليل ان آلاف الشبان العرب في الدول غير المحتلة يركبون زوارق الموت هربا من جحيم الجزائر والرباط والدار البيضاء[1] . ورغم ان هذا التعليق لا علاقة له بالشريط بل بشريط ثاني يقترحه هذا الناقد، فاني أجده مهما لأنه يوسع « القضية » الى افق لم يتناوله بعد السينمائيون العرب.
[1] Un des moteurs du film est la description de la vie absurde, sans horizon des jeunes palestiniens. Le film en accuse « l’occupation » israélienne. Faux encore une fois. Les rapports de l’ONU sur le développement humain du monde arabe, élaborés par des Arabes, ont établi que l’immense majorité des moins de 25 ans de l’ensemble du monde arabe n’avaient qu’un rêve : quitter leurs pays pour l’Occident. La jeunesse du Maghreb déploie des trésors d’ingéniosité pour entrer dans l’Union européenne et surtout quitter, Alger, Rabat, Casablanca. Parce que monde arabe dans son ensemble est un immense repoussoir pour sa jeunesse à qui il ferme tout avenir. : http://www.objectif-info.com/AP/paradise.htm
5 commentaires:
Good review... you should publish it somewhere else if you did not do so already...
merci ya tarek
.ce n’est pas une analyse bien structurée, ce sont plutôt des « impressions » sur ce film bouleversant et exceptionnel .. et je serai très content de recevoir éventuellement tes remarques sur le film et /ou mes «impressions » .
« somewhere else » ok mais ou ? .... j’avais besoin d’en parler ….il est très long pour être publier dans un quotidien…et pas très « sérieux » pour des revues spécialisées..
encore merci.
merci k-pax mais peut être que tu ne l'as pas ( bien ) lu !
je plaisante ....
c'est toi qui m'as poussé à écrire cet article en critiquant mon "bébé blog" !
encore merci et continue à me critiquer
Enregistrer un commentaire